صندوق التنبيهات أو للإعلان

قياس قوة الدولة من خلال الحكم الراشد

أضف تعليق05:29, Publié par موقع عربي بومدين

قياس قوة الدولة من خلال الحكم الراشد

(إسقاط على التجربة الجزائرية)

الدكتور الأخضر عزي
 أستاذ مكلف بالدروس، جامعة محمد بوضياف –المسيلة-الجزائر.

الدكتور غالم جلطي
 أستاذ مكلف بالدروس، جامعة أبي بكر بلقايد – تلمسان-الجزائر.

تمهيد حول الخلفيات الفكرية للحكم الراشد

تصارع الجزائر وتجابه اليوم وأكثر من أي وقت مضى أزمة كبيرة ومعقدة وعميقة، رغم الإمكانيات المتاحة لها.، ويمكن النظر إلى ذلك بنظرة ليست تشاؤمية في الواقع، لكن هناك مؤشرات ذاتية تجعلنا نعتقد أن الخروج من هذه الأزمة ليس في الأجل القصير، فهذه الأزمة يمكن أن تكون وفق علاقة على طريق متشعب نظرا للهزات السياسية والاقتصادية، وهذا ما يؤكد أكثر فأكثر عدم فاعلية سيرورة المؤسسات التي كانت موجودة قبل الأزمة العميقة التي عرفتها الدولة الجزائرية، وبعد اقامة وتفعيل المؤسسات خاصة المحلية منها المنتخبة وتلك الإقتصادية التي لا زالت لم تنشط العمل والفعل الحركي بعد العديد من التجارب التي قامت بها الجزائر ومنذ اشتداد الأزمة عام 1992م. لكن المجتمع، والمجتمع وحده بقي يقاوم يوميا ليس فقط من ناحية الرد الرفضي الصامت للعنف واللإستقرار ولكن كذلك تجاه التوترات التطبيقية لبرنامج التعديل الهيكلي، خلال الفترة الحرجة (1995- 1998م)، مما جعل المجتمع يتساءل عن مستقبل الأجيال من السكان النشيطين، وتحديدا الأجيال الصاعدة في الوقت الراهن تحت ظروف عدم الحوار البناء والهجرة القسرية وغير الموفقة للأدمغة، وزيادة التهميش واستراتيجية الظرفية وتسيير الأزمة، كما كان يبرر الفعل غير اللائق للمسيرين، مما أدى إلى تفاقم الآفات الإجتماعية التي توسعت وازدادت حتى في المدن والقرى الجزائرية داخل الجزائر العميقة.

نلاحظ في أيامنا هذه أن الموارد المتاحة للمجتمع الإنساني أكثر محدودية من اي وقت مضى، بينما التحديات التي تواجه الدول والحكومات وكذا المنظمات والجمعيات تزداد بدورها تعقيدا وتدهورا، لذا فإن الشركاء والمتعاملين بدأوا بالبحث الاستنباطي عن الكثير من الأفكار الجديدة والمدعمة بحركية يمكن أن تؤدي إلى إيجاد مدى كبير وعبره إيجاد موارد متعددة كفيلة بضمان السير العادي للحكومات، وتبعا لذلك استقرار الدول ضمن حدودها الإقليمية التقليدية مع ضمان حد من المخاطرة السياسية والاستراتيجية تجاه العالم الخارجي من واقع العولمة والكوكبية التي أفرزت الكثير من الآثار ذات المناحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهكذا أعطت الدول في إطار فلسفة الحكم الراشد[1] نفسا من التنوع والتجديد بإعطاء المجتمع المدني حركيةجديدة في إطار الشفافية والمساءلة ، وعبر الجمعيات المدنية كإطار نوعي للأبعاد التربوية والتثقيفية والتوعوية، فالجمعية من هذا المنظور هي التي تؤسس الإطار الحقيقي للمجتمع والرأي العام وبإمكانها تحفيز حركية جديدة ، إضافة إلى الأفكار الجديدة والاستفادة من توليفة مثلى وكبيرة من الآراء والتجارب المكتسبة التي تثري المبادلات بشتى أشكالها وصورها ، وبالتالي إيجاد مرونة في المشاركة والتنشيط عبر نماذج فعالة في اتخاذ القرارات خدمة للمصلحة العامة. ويكون من المربح بالنسبة للجمعيات  ،وكذا الدولة في إطار المعرفة الجديدة للحكم الراشد تجديد متواتر ومتزامن وبدون توقف لتشكيلاتها عن طريق ضمان التكوين والتوجيه لأفراد المجتمع ، ويبقى متخذو القرارات المسيرة لكيان قوة الدولة بمثابة عنصر القطب الحيوي والديناميكي في الاستماع إلى انشغالات الرأي العام خدمة للديمقراطية والمشاركة. ولا بد من الإشارة إلى عنصرين مهمين يساهمان في بلورة قوة الدولة ويتمثلان في:

1-      زرع ثقافة التحليل: يقصد بذلك تلك المحاولات أو النظرات التي تبرز مميزات المحيط والمنظمات مثل روح الانفتاح التي تنشط وتزداد عبر طرح العديد من الأسئلة الاستنباطية المبنية على فرضيات علمية تجد لها أرضية التطبيق الميداني، و يلي ذلك تحليل دقيق للإجابات المحصل عليها مع إضافة طموح التعلم والتجند والالتزام التي بامكانها مستقبليا قبول كل ما من شأنه أن يرمز لروح التغيير الذي هو أساس بناء قوة الدولة كما أشارت إلى ذلك w.k kellog foundation, 1998.

2-      اختيار وفرز المعطيات النوعية: إن المعطيات النوعية تكون متوافقة بشكل أو بآخر عندما تكون الإجابات الممكنة عن سؤال مطروح متعددة بغية إقامة وإعداد قائمة من الخيارات المعرفية كفيلة بتبني الأقوى منها ليس على أساس القانون البيولوجي البقاء للأصلح ولكن على أساس أن هذه الإجابات تبرز أصالة تفكير مجتمع البلد محل الدراسة وبعيدا عن الارتجالية والديماغوجية وحتى الشوفينية الضبابية، فإثارة استقراءات وملاحظات وأراء أو كلمات معطاة اعتياديا وفق إجابة عن أسئلة مفتوحة لما تكون هذه الأسئلة غير مستخرجة من اختيارات ووفق إجابات على أي مستوى من المستويات السلمية، فمن الأفضل ولأجل بناء قاعدة معلومات صلبة أن الأشخاص  مطالبون بالإجابة تبعا لما يمكن تصوره في حدود معارفهم حتى وإن كانوا أميين، لهذا يجب أن يعطى الوقت اللازم لأجل تحليل المعطيات النوعية أكثر من الاهتمام بالمعطيات الكمية، لأن المؤسسات بإعتبارها كرافد من روافد الدولة مطالبة بإعداد استراتيجيات جديدة يتعين القيام بها وتسخيرها خدمة للتنمية المستديمة المرفقة بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات (R.S.E) وهي مطالبة كذلك بالولوج والتحكم في مختلف المجالات الحيوية للاقتصاد الوطني والجانب الاجتماعي والثقافي، مما يتطلب أن يكون الأمر ذا علاقة بأولويات تحددها كل دولة من واقع قدراتها المستنبطة من قياس عناصر قوتها، كما يجب إعداد تصور للنتائج المرتقب الوصول إليها، ولن يتأتى ذلك إلا بتبني الاستراتيجيات الكفيلة بالحصول على هذه النتائج المرتقبة، فلخلق نجاح في هذه النقاط الاستقطابية من ناحية الإطار المؤسساتي، يتعين على المؤسسات كروافد أن تقوم باختيارات حرة وواضحة المعالم لأجل تقييم أفضل وواضح وبطريقة مثلى للنتائج، لذا يتعين عليها ومنذ البداية الاعتماد على استراتيجيات واضحة المعالم من واقع النظرات الجديدة للحكم والتسيير والإرشاد المبني على الاكتشافات والابتكارات الجديدة في مجال إدارة الأعمال إن على المستوى الكلي أو الجزئي، لأن الحاكمية والحكم الراشد كمصطلح يتضمن اليوم وأكثر من أي وقت مضى الكثير من المعاني وأصبح يستعار من استراتيجياته الابتكارية المرنة الكثير من الاستخدامات في مجالات الاقتصاد، السياسة، التنمية المستديمة، التقدم مع تقليص حدة المشاكل...الخ، فمصطلح الحكم الراشد يرتبط بالعديد من أنواع السياسات العمومية و/أو الخاصة ويتميز بدلالة واقعية على مختلف المستويات الإقليمية للتدخل: فمن الحاكمية المحلية إلى الحاكمية العالمية، مرورا بالحاكمية الحضرية، إضافة إلى تلك الحاكمية المتعلقة بالمناطق الأوروبية والآسيوية للسياسات النقدية، التشغيل، المؤسسات، شبكة المعلومات والأنترنت، وبعبارة أخرى يمكن أن نتكلم كذلك عن الحاكمية الإجمالية، والمساهمة الرئيسية النظرية لمفهوم الحاكمية الجيدة أو الحكم الراشد جاءت من الكتاب الذي كان محل تقدير ونال صاحبه جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998، ويتلق الأمر بالبروفيسور المعروف Awartya sen، والذي يرى أن التطور الاجتماعي والديمقراطية هي عمليات تتدعم بصفة متعاضدة، فالديمقراطية تشكل جزءا لا يتجزء من التنمية والمترجم كتوسع في الحريات الحقيقية حيث أن الحريات الشخصية يجب أن يتم تقبلها، ومن هذا المنظور فأن التوسع في الحريات يشكل الهدف الأول والوسيلة الأساسية للتنمية، فأسلوب الحاكمية ومنه الحكم الراشد له الكثير من التأثيرات على سلوك الأفراد الذي ينعكس على سلوك المنظمات والحكومات والدول، فأسلوب المشاركة يؤدي شيئا فشيئا أو يقود إلى مؤسسات تتميز بخاصية المساواة والتي تحل محل المؤسسات السابقة ذات إدارة الأعمال الكلية والجزئية غير المرنة والتي بدورها جعلت من أفكار وسلوكات الأفراد شبه مسجونة ومقيدة كما عالج ذلك Das Gupta في دراسة حديثة، بحيث عكست هذه الدراسة سلوكات الأفراد في بناء الدولة القوية القائمة على الحكم الراشد، لأن ذلك هو الأسلوب الأمثل لتشجيع المسؤولية المحلية خاصة على مستوى الجماعات المحلية والحكم المحلي كما هو الشأن في بلد كالجزائر المتميزة بشساعة الانتشار الأفقي لمؤسسات الجماعات المحلية وما يحدث بها يوميا من مناوشات وصراعات تخفي غياب الحكم الراشد وتظهر أن الأشياء مجرد مجابهات عشائرية وحسد وبغضاء بحكم حب التفوق الأجوف وغلبة سيادة عقدة التسيير من منطلق التشهير بالقبيلة والعشيرة والدوار، فالأسلوب الجديد للحاكمية يشجع إذن المسؤولية المحلية كما ذكرنا ويزيد في الحراك الاجتماعي ويمكن أن يذهب لغاية التأثير على المعدلات الديموغرافية كما عالجها المنظر سابق الذكر، ولأدل على أهمية الحكم الراشد إن على مستوى الدولة أو جماعاتها المحلية في إطار اللامركزية، ما صرح به الرئيس الجزائري بوتفليقة قائلا: " لا يمكن إقامة الحكم الراشد بدون دولة القانون، بدون ديمقراطية حقيقية، بدون تعددية سياسية، كما لا يمكن أن يقوم حكم راشد إطلاقا بدون رقابة شعبية" يستخلص من هذا الطرح الاستراتيجي ما للحكم الراشد من دور فعال في التنمية المحلية وفي بناء الدولة القوية التي تبتعد عن سياسة الواجهة والبهرج السياسي العقيم المبني على الأكاذيب والمبالغة والتلاعب بعواطف الهيئة الانتخابية أثناء الاستحقاقات الوطنية.

التطور المتدرج لإثراء فكرة الحاكمية والحكم الراشد بين التنظير العلمي والتنظير الاستراتيجي

 إن الحكم الراشد أو الحاكمية هي مجموعة القواعد الطموحة الموجهة لإعانة ومساعدة المسيرين للالتزام بالتسيير الشفاف في إطار هدف المساءلة على أساس قاعدة واضحة المعالم وغير قابلة للانتقاد أحيانا كون كل الأطراف الفاعلة عبر النشاطات المتعددة تساهم في ذلك أي في مجال التسيير، وقد أصبحت الحاكمية الجيدة هي الكلمة لمحورية للتنمية الدولية وهي مطبقة في كل القطاعات وقد ظهر هذا المصطلح بشكل جلي في حقبة الثمانينيات أي في الوقت الذي بدىء فيه بالتطبيق الميداني لبرامج التعديل الهيكلي والتي تهدف إلى خلق النمو الاقتصادي، إلا أن ذلك لم يتحقق في كثير من البلاد النامية، بمعنى ظهور صعوبات كثيرة وجادة حالة دون تطبيق هذه البرامج، وقد تم تشخيص هذه الصعوبات فتبين أن هناك أخطاء في تسيير الأعمال العمومية والتي مردها عدم الترجيح الاحصائي والميداني وكذا عنصر الأبوية المطلقة ونقص الشفافية لدى الحكومات، وعليه فقد عرف البنك الدولي (1992) الحكم الراشد بأنه الطريقة التي يمارس بها السلطة لأجل تسيير الموارد الاقتصادية والاجتماعية لأي بلد بغية التنمية، أما البنك الدولي، فإن الحكم الراشد مرادف للتسيير الاقتصادي الفعال والأمثل وللإجابة على مختلف الانتقادات الخاصة بالمجموعات الدولية للتنمية التي تتهم وتشكك في الاصلاحات الهيكلية المسيرة بطريقة علوية أي من الأعلى نحو الأسفل والتي أدت إلى فراغ مؤسساتي  بدل تعبئة القدرات الخلاقة الترقوية الذاتية للمجتمع الذي يزخر بها، وهكذا نجد أن لجنة المساعدة التابعة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE قد أنشأت فريق عمل حول التنمية التشاركية والحاكمية الجيدة بحيث ربطت بين الحاكمية الجيدة والتنمية التشاركية، وكذلك حقوق الانسان والديمقراطية، كما قامت بتعيين وتدقيق وتعريف إحترام القوانين وتسيير القطاع العام ومحاربة الرشوة وتخفيض النفقات العسكرية الفائضة والمبالغ فيها على اعتبار أن ذلك من أبعاد  الحكم الراشد، وكان ذلك سنة 1995، وقد اقترحت لجنة الحاكمية الاجمالية (1995) تعريفا أكثر عمومية بموجبه أشير إلى أن الحكم الراشد هو مجموع الطرق المتعددة لتسيير الأعمال المشتركة من طرف الأفراد والمؤسسات العمومية والخاصة، وفي بداية سنوات التسعينيات وعندما انفجر نموذج التنمية الاشتراكية القائم على الملكية الجماعية لوسائل الانتاج كما يرى التيار الماركسي، بمعنى القائم على الدولة وحدها أي التركيز على الدولة بشكل ملفت للأنظار مثلما كان الرئيس الجزائري السابق الشادلي بن جديد يطلق عليها البقرة الحلوب، وكانت هذه الاستراتيجية السابقة تظهر تناحرا رغم وجود شبه سيطرة كلية للبراغماتية الاقتصادية القائمة على السوق والتي أصبحت بمثابة بيان فلسفي، لذلك لوحظ أن الخطاب الدولي حول التنمية بدأ يتشكل ويتركز حول دور الدولة تجاه المجتمع والقطاع العام، كما أن التقرير حول التنمية للعام 1997 والذي اتخذ من عنوان " الدولة في عالم متغير " قد أشار بما يؤكد أن الوظائف الأساسية للدولة في اقتصاد السوق الاجتماعي سوف تصحح نقائص فكرة كمالية السوق كما تساهم في عدالة وانصاف أكثر على أن تتركز أنشطة الدولة على مستويات متعددة للتدخل وعبر ثلاث عناصر أساسية هي:

1-    الدولة في حد ذاتها.

2-    المجتمع المدني.

3-    القطاع الخاص.

إن الحكم الراشد يتطلب عدم استبعاد أي عنصر من النشاط الانساني في خدمة التنمية وأصبح هذا الحكم يشكل أحد الأحداث الملاحظة في التطور الحديث للرأسمالية والتي جاءت للتقليص والتحكم في إفراط طرح أدم سميث " دعه يعمل دعه يمر " لأن هذا الإفراط أوجد الكثير من الاتهامات النابعة من أن فكرة وشاح ومصيدة اليد الخفية والتي تضبط كمعيار للأهداف والأفعال الشخصية لم تؤد إلى تظافر الجهود لأجل خدمة الصالح العام، ومن نافذة القول فإنه مقبول وفي كل التجمعات الانسانية من أن حياة الجماعة ومصالحها المفهومة جيدا هي التي تجبر وتفرض قبل كل اعتبار للمصلحة الخاصة والفردية، وعليه فإن الحكم الراشد جاء لتصحيح أخطاء الدولة الحديثة.

لمحة عن خلفية فشل سياسات التنمية

كل الباحثين في المجال السياسي و الاقتصادي يجمعون على أن عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية فشلت فشلا ذريعا في دول العالم الثالث، باستثناء بعض الدول،  والدول العربية على وجه الخصوص و الجزائر على وجه التحديد بالرغم من أنها كرست مجهودات جبارة من أجل إحداث تنمية مستقلة مبنية على العدالة الاجتماعية و لبلوغ هذا الهدف تبنت استراتيجيات و نماذج تنمية مختلفة،     و رغم كل الإصلاحات الاقتصادية المتتالية التي قامت بها معظم هذه الدول إلا أن النتائج جاءت مغايرة لطموحات شعوبها و لم يتم التوصل إلى أداء اقتصادي يحدث تنمية حقيقية، و بقيت قطاعات عديدة مهملة حيث تأكد أن التطور الاجتماعي أبطأ بكثير من التغير الاقتصادي. لهذا أصبح من الأهمية بمكان دراسة ومعرفة أسباب الفشل، إلا أنه لا يجب البحث عن هذه الأسباب في تقنيات تحضير مخططات التنمية أو في عجزها وإنما يتطلب الأمر البحث عنها في طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي و السياسي وكيفية عمله، فأصبحت إذا طريقة وأسلوب الحكم في قفص الاتهام نظرا لما آلت إليه نتائج سياسات التنمية الاقتصادية في معظم الدول النامية.

الأمر الذي يؤدي بنا إلى طرح السؤال التالي:

 ما هي الشروط السياسية للتنمية الاقتصادية ؟

منذ أن ظهرت أنظمة الحكم المختلفة في الحقبات التاريخية المختلفة إلى أن برزت الحكومات بصورها الحالية على اختلاف أنماطها و تشكيلاتها بالرغم من الاختلافات في شكل الحكومات، إلا أنها مازالت تبحث عن أسلوب و طريقة الحكم و القيادة للوصول إلى طريقة مثلى للأداء المتميز ولقد ساهمت ثورة المعلومات التي ظهرت خلال القرن العشرين بصورة فاعلة في تطوير أداء الحكومات .

إلا أن المشكلة التي تواجه دول العالم الثالث من حيث أداء الحكومات ترتبط بالكيفية التي يمكن أن تحافظ بها هذه الدول على السلطة لها أثر مباشر على أداء الحكومات فعدم الاستقرار السياسي يعتبر المعوق الأساسي في مسيرة أداء الحكومات في ممارسات أنشطتها المختلفة بصورة متميزة، فكثير من دول العالم الثالث تضع برامج مثالية ولكنها تفشل في تطبيقها عل أرض الواقع بسبب التفكير في الحفاظ على السلطة.        

الشروط السياسية للتنمية

في ظل التطورات الكبيرة و المستمرة التي تشهدها مختلف أدبيات التنمية، توصلت مختلف الدراسات المعاصرة إلى إمكانية حصر الشروط السياسية، و ذلك بعد أن حسم الجدل الذي طالما عكس تباينا تنظيريا و ايدولوجيا في هذا المجال لصالح مجموعة من المفاهيم حيث تم إعادة توجيه دراسات التنمية نحو مسارات جديدة تؤكد على صلاحية مجموعة من القيم والآليات الصالحة للتطبيق على كافة المجتمعات بدون تمييز بحيث يقود الالتزام بها بالضرورة إلى حسن الحكم أو الإدارة الجيدة لشؤون الدولة و المجتمع (الحكم الراشد) والذي ترتبط بدورها بكل من الشفافية و توسيع نطاق المساءلة، وعلى هذا النحو برزت مفاهيم حسن الحكم و الشفافية والمساءلة كشروط سياسية للتنمية في ظل المستجدات على الساحة الدولية، كما تنامى على نفس الصعيد الاهتمام بمجموعة المخاطر التي يمكن أن تهدد تواصل العملية التنموية ومن أهمها الفساد الإداري والسياسي، نظرا لما تمثله من تأثير سلبي على كل من مشروعية النظام واستقراره في كثير من دول العالم الثالث.

كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الطرح المعاصر حرص رغم ذلك على ضرورة الاهتمام بالخصوصية الثقافية لدول العالم الثالث، حيث تؤِكد الاتجاهات المعاصرة للتنمية على أهمية تفسير هذه الأخيرة داخل كل مجتمع انطلاقا من تجاربه الخاصة إلى جانب حرصها على التعرف على مختلف السمات المشتركة للتنمية من منظور مقارن.

يعد مفهوم حسن الحكم كأحد الشروط الأساسية للتنمية أكثر المفاهيم إثارة للجدل في دول العالم الثالث، نظرا لما يطرحه من آليات و منظومة قيمية قد تتشكك بصددها بلدان العالم الثالث، وهو ما يسمح بحيز واسع للاختلاف بصدده.



تعريف الحكم الراشد:

 وجدنا أن هناك تباين في انتساب أصل مصطلح الحكم إلا أن هناك تقارب كبير في تعريفه و نورد هذه التعاريف فيما يلي:

- ظهر مصطلح الحكم الراشد في اللغة الفرنسية في القرن الثالث عشر كمرادف لمصطلح "الحكومة" ثم كمصطلح قانوني (1978) ليستعمل في نطاق واسع معبرا عن "تكاليف التسيير" (charge de gouvernance)   (1679) و بناء على أساس هذا التعريف، ليس هناك شك أو اختلاف حول الأصل الفرنسي للكلمة .

- كلمة الحاكمية  أصلها إنجليزي فهو مصطلح قديم، أعيد استعماله من قبل البنك الدولي في منتصف الثمانينات حيث أصبح من الاهتمامات الكبرى في الخطابات السياسية و خاصة في معاجم تحاليل التنمية، و يمكن شرحه بأنه " طريقة تسيير سياسة، أعمال و شؤون الدولة".

كما أن هذا المصطلح فرض لتحديد مجموعة من الشوط السياسية التي من خلالها وضعت في حيز التنفيذ المخططات التي تكتسب شرعية للعمل السياسي وفي نفس الوقت العلاقات مع الإدارة و مع القطب المسير و بقية المجتمع.

- يقصد بالحاكمية "gouvernance" أسلوب وطريقة الحكم و القيادة، تسيير شؤون منظمة قد تكون دولة، مجموعة من الدول، منطقة، مجموعات محلية، مؤسسات عمومية أو خاصة. فالحاكمية ترتكز على أشكال التنسيق، التشاور، المشاركة و الشفافية في القرار.

فهي تفض الشراكة للفاعلين و تقارب المصالح.     

إن مفهوم الحاكمية يطرح ضمن إشكالية واسعة من الفعالية و النجاعة في العمل العمومي"l’action publique" و تهتم بالعلاقة بين السلطة والحكم.

فمفهوم الحاكمية يرتكز على ثلاث أسس رئيسية:

- الأساس الأول يتعلق بوجود أزمة في طريقة الحكم (crise de gouvernabilité) فقدان مركزية هيأة الدولة و ضعف الفعالية و النجاعة في الفعل أو العمل العمومي.

- الأساس الثاني يظهر أن هذه الأزمة تعكس فشل أو ضعف الأشكال التقليدية في العمل العمومي.

- الأساس الثالث يتعلق بظهور شكل جديد للحكم أكثر مواءمة للمعطيات الحالية.

و دائما في دور المحفز صندوق النقد الدولي و البنك الدولي يدافعان اليوم على مبادىء الحكم الراشد كأساس للسياسات الاقتصادية، و يعتبر الحكم الراشد ضمانا لتوفير الشروط الملائمة للحصول على نمو هام يستفيد منه المحتاجين ويضمن التطور الاجتماعي للبلدان ذات الدخل المنخفض.

الحكم الراشد لا يمكن أن يكون إلا في كنف السلم الاجتماعي و الاستقرار السياسي و ترقية حقوق الإنسان و بسط قوة القانون.

معايير الحكم الراشد: لا سبيل لإرساء الحكم الراشد إلا:

-       بقامة دولة الحق والقانون،

-       ترسيخ الديمقراطية الحقة،

-       التعددية السياسية،

-       المراقبة الشعبية التي تتولاها مجالس منتخبة بشكل ديمقراطي (البرلمان)،

-       الشفافية في تسيير شؤون الدولة،

-       المحاسبة التي تقوم من خلال بناء سلطة قضائية قوية،

-       حرية التعبير وحرية الرأي تقوم بها وسائل الإعلام من خلال حرية الاطلاع و الاستقصاء و التبليغ.    

الفساد الإداري و السياسي أهم معوقات التنمية في الدول النامية

برغم تعدد معوقات التنمية في البلدان النامية إلا أن قضية الفساد الإداري و السياسي تشغل موقعا من مواقع الصدارة بما يحتم ضرورة مواجهتها للحد من آثارها السلبية المختلفة على المسار التنموي. و لعل مما يجب التنويه إليه أن السنوات الأخيرة قد شهدت اهتماما متزايدا بقضية الفساد     و ذلك ما ظهر من خلال مناقشات الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي و تقارير التنمية الدولية هذا إلى جانب جهود منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية في هذا المجال.

كما يمكن تصنيف الفساد إلى ثلاث أقسام رئيسية:

1- عرضي ،

2- مؤسسي،

3- منظم

و عليه يمكن القول أن للفساد أشكالا كثيرة، فقد يكون فرديا أو مؤسسيا أو منظما، و قد يكون مؤقتا أو في مؤسسة معينة أو قطاع معين دون غيره. وأن أخطر هذه الأنواع هو الفساد المنظم حين يتخلل الفساد المجتمع كاملا و يصبح ظاهرة يعاني منها هذا المجتمع.

تتفق آراء المحللين على أن الفساد ينشأ و يترعرع في المجتمعات التي تتصف بما يلي:

1.     ضعف المنافسة السياسية.

2.     نمو اقتصادي منخفض وغير منظم.

3.     ضعف المجتمع المدني و سيادة السياسة القمعية.

4.     غياب الآليات و المؤسسات التي تتعامل مع الفساد.

و ترجع النظرية الاقتصادية الفساد إلى البحث عن الريع، و أما علماء السياسة فقد تباينت وجهات نظرهم، فمنهم من يرى أن الفساد دالة لنقص المؤسسات السياسية الدائمة و ضعف و تخلف المجتمع المدني.

و هناك فئة من السياسيين ترى أن الفساد وسيلة للمحافظة على هياكل القوى القائمة الفاسدة و نظم السيطرة السياسية.

وللفساد آثار وخيمة على المجتمع بكامله لهذا أصبح القضاء على الفساد الإداري و السياسي و اقتصادي إحدى دعائم الحكم الراشد.

و يبدو أن هناك اتفاق حول مجموعة من الشروط الواجب توفرها  كشروط سياسية للتنمية    و التي تتمثل فيما يلي: 

        1- أهمية تمتع النظام بشرعية تستند إلى القبول الشعبي وفاعلية الأداء و هو ما تفتقر إليه كثير من دول العالم الثالث، بما يمكن أن يعكس مظهرا سياسيا من مظاهر  سوء الحكم.

        2- وجود منظومة قيمية تعكس ثقافة سياسية تسهم في تحجيم الصراعات المحتملة بين كل من الحكام والمحكومين وتحد من استخدام العنف في ظل علاقة تنافسية غير صراعية.

وهنا تجدر الإشارة إلى ما تشهده كثير من دول العالم من تصاعد لحدة المواجهات في ظل تراجع ملحوظ لروح التسامح وقبول الرأي الأخر يعكس في مجمله أحد أزمات التنمية السياسية في هذه البلدان.       

3- ضرورة مواءمة الهياكل الاجتماعية والسياسية للتغيرات الاقتصادية، بما يجنب النظام التعرض لمزيد من الضغوط وعدم الاستقرار، الذي يمكن أن يمثل عائقا لعملية التحول الديمقراطي.

4- السماح بدور المنظمات المستقلة في مواجهة الدولة خاصة فيما يتعلق بممارسة القوة السياسية و صياغة وتطبيق السياسات إلى جانب عمليات التجنيد السياسي، حيث يمثل هذا الشرط  أساسا سياسيا للتنمية يعكس تفاعلا متوازنا بين كل من الدولة والمجتمع في ظل علاقة تعاونية تسمح للدولة بتنفيذ برامجها التنموية والقيام بالتوزيع العادل للموارد والحفاظ عل النظام دون اللجوء إلى الوسائل القهرية.     

5- قبول دور للفاعلين الدوليين على كل من الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري.

الاستراتيجيات التي تحدد ملامح الحكم الراشد وتتمثل فيما يلي:

1- البعد المؤسسي

حيث يضمن ترسيخ دعائم الإدارة الجيدة لشؤون الدولة والمجتمع و توفر كل من الشفافية و المساءلة تستدعي إرساء دعائم هياكل مؤسسية تتواءم و مرحلة التحول الديمقراطي الذي يرتبط بدوره بالمتغيرات السابقة.

2- البعد الاقتصادي و تحسين مستوى الأداء  

لا يجوز إغفال أهمية البعد الاقتصادي، حيث يمثل هذا البعد أحد أهم محاور و آليات حسم الحكم كخطوة على طريق التحول الديمقراطي، حيث لم يعد الاهتمام محصورا في تحديد مستويات النمو الاقتصادي و إنما امتد ليشمل وجوب تحسين مستويات الأداء الاقتصادي لمواجهة مختلف الأزمات و ذلك عبر إصلاحات هيكلية.

3- علاقة الدولة بمؤسسات المجتمع المدني كأحد محاور الحكم الراشد

تعكس طبيعة علاقة الدولة بمؤسسات المجتمع  المدني أحد أهم محاور حسن الحكم بحيث اعتبر التأكد على فعالية مؤسسات هذا المجتمع في مواجهة الدولة أحد الشروط الأساسية للتنمية. فالمجال الاجتماعي المستقل عن الدولة الذي يؤكد على وجود مجال عام للأنشطة التطوعية للجماعات يتيح قدرا من التوازن بين طرفي معادلة القوى في ظل خضوع مؤسسات المجتمع المدني للقانون، بما يضمن استقلالها عن أي توجهات أيديولوجية من جانب والارتفاع بمستوى المساءلة من جانب أخر.

4- دو ر الفاعلين الدوليين في دعم الشفافية و المساءلة

تشير الإستراتيجيات الحالية للتنمية إلى موقع هام لدور الفاعلين في رسم وتحديد معالم المسار التنموي، وبطيعة الحال يتضح هذا الدور جليا في دول العالم الثالث من خلال دعم هؤلاء الفاعلين لبعض التوجهات التي تدعم مقولات واليات حسن الحكم بصفة عامة في هذه الدول، وذلك عبر مساعدات اقتصادية تقدمها الحكومات الأجنبية وبعض الوكالات الدولية، فالمساعدات الدولية عادة ما توجه على سبيل المثال لحفر التعددية كأحد الأبعاد المؤسسية للتنمية السياسية أو إلى دعم استقلالية المنظمات الشعبية وضمان انسياب المعلومات بما يضمن مزيد من الشفافية والمساءلة. 

لكن هناك دراسات تشير إلى أن مصطلح الحاكمية قد ظهر عام 1937 وقد جسد ذلك الكاتب والاقتصادي الأمريكي Roland Coase في مقالته الشهيرة تحت عنوان the nature of the firm، وفي خلال حقبة السبعينيات فقد عرف بعض الاقتصاديين الحاكمية بأنها تمثل مختلف الاجراءات الموضوعة محل التطبيق من طرف المؤسسة لتحقيق تنسيقات داخلية كفيلة بتخفيض تكاليف وأعباء المبادلات التي يواجهها السوق حاليا، فالهدف الأساسي إذن هو تثبيت وتحرير القواعد الجديدة للعبة بين المسيرين والمساهمين، وعليه وتحت ما يعرف بالأثر المثلثي للعولمة والكوكبية المالية وكذا التداول السريع لرؤوس الأموال فقد أصبح المساهمون يطالبون بنموذج حكومة المؤسسة، ويمكن أن نستشف ذلك من خلال الآفاق الجديدة المقدمة والموفرة عبر الكوكبية المالية تحت تأثير إختلال ولا تنظيم الأسواق المالية فالحاكمية وعبرها الحكم الراشد تسعى إلى إحلال النقائص في حق الشركات عبر تسطير واجبات المسيرين تجاه المساهمين من حيث: الأمانة، الصدق، الاستقامة، الشفافية، الفاعلية وتطوير نتائج المؤسسة، وهذه هي النقطة المنطقية التي يستنبط منها لماذا يتم الاحتفاظ والاستفسار عن مخزونات الحافظات المالية في إطار يهدف إلى توعية المسيرين بخصوص قضية المساهم على اعتبار أنه العنصر المحرك للتنمية بشتى صورها، وفي سنوات الثمانينيات، فإن المؤسسات الدولية قد اقتنعت بعبارة good governance، والتي تترجم بالحاكمية الجيدة، ولأجل تعريف وتحديد خصوصيات الادارة الجيدة العمومية والتي يمكن تطبيقها على بلدان مطالبة أكثر فأكثر وفي إطار تبادل الفرص وتكافؤها لكي تضع الركائز الخاصة بالاصلاحات المؤسساتية اللازمة لنجاح كل البرامج الاقتصادية، فهم ينظرون تبعا لذلك إلى الحكم الراشد سواء كتسيير عمومي قائم على مبدأ المنظم، وعليه فإن الحكم الراشد سيسعى إلى اضعاف فكرة الدولة الحمائية l’etat providence.

الحكم الراشد والمسؤولية الإجتماعية للمؤسسات

يهدف الحكم الراشد إلى تحقيق الاستفادة من السياسات الاجتماعية عبر أسلوب المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات RSE وكذا خصخصة المصالح العمومية فالمسؤولية الاجتماعية لمؤسسات مستمدة من طابعها الاختياري المرن والشامل بما يسمح ويشجع كل مؤسسة أيا كان حجم ونطاق أعمالها بأن تنتهج ما تراه مناسبا وملائما من الاجراءات والممارسات وفق امكاناتها وقدرتها المادية وبما يتجاوب مع حقائق السوق ومتطلباته، وهذا الأسلوب رديف للحكم الراشد، وهكذا نجد أن الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة السيد كوفي عنان طرح في إطار الملتقى الاقتصادي في دافوس بسويسرا خلال جانفي 1999، وأمام أعضاء الملتقى ما عرف بشعار " توجيه قوى الأسواق من أجل دعم المثل العالمية "، وبمقتضاه ظهر عهد جديد، وتم الاجماع على ذلك من طرف ممثلي قطاع الأعمال والمال والتجارة في العالم بحيث يقوم على أساس تكريس احترام عناصر المشاريع التجارية لمدونات ثلاث من الصكوك الدولية: الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في سنة 1948، إعلان المباديء والحقوق الأساسية في العمل الصادر عن منظمة العمل الدولية في العام 1998، وإعلان ريو الصادر عن مؤتمر الأرض في العام 1991، وتتلخص هذه المباديء في تسعة عناصر مبدئية رئيسية هي:

1-     احترام ودعم حماية حقوق الإنسان المعلنة عالميا.

2-     احترام حق التنظيم والمفاوضة الجماعية.

3-     كفالة عدم ضلوع المؤسسات المنضمة إلى الاتفاق العالمي في انهاك حقوق الانسان.

4-     القضاء على كافة أشكال العمل الجبري والقهري.

5-     القضاء الفعلي على عمل الأطفال.

6-     القضاء على التمييز بين الاستخدام والمهنة.

7-     دعم التدابير الاحترازية في مواجهة التحديات التي تتعرض لها البيئة.

8-     اتخاذ تدابير لتشجيع الاحساس بالمزيد من المسؤولية في المجال البيئي.

9-     تشجيع تطوير ونشر التقنيات البيئية غير الضارة بالانسان.

فيظهر جليا وأن هناك تكاملا بين الحكم الراشد وهذه المسؤولية، والتي تعرف بانها الإدماج الطوعي من طرف المؤسسات للإهتمامات الاجتماعية والبيئية في أنشطتها التجارية وعلاقاتها مع شركائها، وإن تطوير هذا المفهوم قد استنبط عبر الأخذ بعين الاعتبار لعودة الوعي المتزايد من أن النجاح التجاري المستديم لم يكن الوصول إليه وفقط عبر تعظيم الربح في الأجل القصير ولكن وكذلك عبر تبني سلوكات مسؤولة.

وإذا ما توسعنا في الطرح التاريخي لتطوير مفهوم الحكم الراشد، فسنجد أن البنك الدولي عام 1997 وخلال الأزمة الآسيوية يعترف أن السوق لا يمكنها ضمان تخصيص أمثل للموارد وكذلك ضبط الآثار الحساسة للعولمة والكوكبية، وقد توصلنا أخيرا إلى ما يعرف بمذهب الحاكمية العالمية والذي بمقتضاه يكون هناك افتراض ينطلق من أن التطبيقات التقليدية للحكومة القائمة على التعاون الدولي بين الدول والأمم لا يسمح أكثر بحلول المشاكل الناجمة عن العولمة، يتعلق الأمر إذن بتعريف هيكل قيم عالمية وكونية والتي تستقي مما يعرف بالممارسات الجيدة سواء على مستوى الأعمال أو على مستوى الحكومات، وكذلك المنظمات المكلفة بضبط العولمة، لأن هناك من يلقي باللائمة على المنظمات العالمية باستخدام مفهوم الحاكمية لمعالجة المسائل السياسية، وهي المسائل التي لا توجد لها في الحقيقة أية وصاية كما أن هناك من ينتقد اللجوء إلى الممارسات الجيدة لأنها لا تعبر عن الحقيقة المراد الوصول إليها.

بناءا على ما سبق ذكره، يمكن القول أن تطور مفهوم الحاكمية والحكم الراشد قد جاء من منبع محيط المؤسسة الخاصة من حيث أنماط التنسيق والشراكة المختلفة للسوق، ومن محيط المؤسسة تم الاتجاه نحو المحيط السياسي بمعنى تحويل أشكال النشاط العمومي وكذلك العلاقة بين الدولة والسوق والمجتمع المدني.

أزمة الحكم الراشد في المجتمع الدولي: مما لا شك فيه وأن مفهوم الحكم الراشد يقوم على فرضية أزمة الحاكمية في المجتمع الدولي والتي تتميز بثلاث مظاهر أو لنقل وقفات تكمن في التالي ذكره:

1-       ليس للسلطات العمومية دوما احتكار للمسؤولية فالحكم الراشد يشكل إجابة ممكنة لأجل إيجاد صيغة توافقية بين السياسة والاقتصاد والاجتماع عبر اقتراح أشكال جديدة للضبط والتعديل وبالتالي التصحيح.

2-       هناك أعوان من كل طبيعة ومن كل الفئات يطالبون أن يكونوا مشاركين في عملية صنع القرار وهم في نفس الوقت في وضعية اقتراح حلول جديدة للمشاكل الجماعية، فالحاكمية تضع النقاط على الحروف بخصوص تنقل المسؤوليات التي تحدث وتتم بين الدولة والمجتمع المدني وكذلك السوق.

3-       أي عون لا يملك لوحده المعارف والوسائل اللازمة لأجل الحل الانفرادي للمشاكل التي تطرح، فهناك عمليات التقاء ومفاوضة أصبحت ضرورية بين المتدخلين حتى وان كانوا متنافرين وغير متجانسين، لأن الحاكمية تستلزم المشاركة والمفاوضة والتنسيق، وعلى هذا الأساس فقد كانت هناك مناظرات بخصوص الحكم الراشد في الألفية الثالثة، فإن التحول الخاص بالاقتصاد الكلاسيكي المبني على أساس الطاقة المادة قد اتجه نحو اقتصاد جديد يسير على أساس الطاقة-الاعلام، بحيث يحول ويظهر القيمة المبذولة والمنشأة من طرف المؤسسات، وهناك كذلك ضرورة التحكم أكثر فأكثر في التحولات السارية المفعول وكذا القيام باسراع والتسريع في الاستلزامات، فهناك مفاهيم جديدة تبدو أكثر من ضرورية وتبعا لمحيطات وفضاءات أكثر فأكثر تعقيدا إضافة إلى حقيقة غير ملموسة مما يستلزم طرح سؤال محوري كالتالي: كيف يمكن تعظيم قدرات المؤسسات حتى تتمكن من انتاج أكبر قيمة مضافة ذات طابع اجتماعي خدمة للاقتصاد والمجتمع والدولة، التي لا يمكن أن تكون إلا قوية تحت كل الظروف؟

مظاهر ازمة الحكم

لقد بدأت المجتمعات الدولية وخاصة الإفريقية منها والجزائر كبلد افريقي تهتم بالحكم الراشد على أساس مجموع القواعد المكتوبة وغير المكتوبة والتي أصبحت الموضوع المحبذ للكثير من الورشات واللقاءات العلمية الوطنية والدولية وتجمعات العمل، وقد أصبح الاقتصاد اليوم هو الشغل الشاغل لكل النقاشات السياسية ,ويظهر جليا أن الموضوع الذي يجمع بين الحاكمية و الخصخصة و تسيير الاقتصاد بطريقة مقارنة لا يمكن أن يكون أكثر عنصر من العناصر الحالية محل الدراسة، فالخصخصة مثلا وباعتبارها رافد للحكم الراشد ومنذ أكثر من أي وقت مضى كعنصر ازعاج للكثير من الدول وخاصة الافريقية والآسيوية منها، حتى أن هذا الموضوع كان محرما الكلام عنه في بلد كمصر حتى عام 1992، لكن أصبحت الخصخصة اليوم بمثابة الوصفة السحرية الغير قابلة للالتفاف والدوران ولكل السياسات الرشيدة في المجال الاقتصادي والاجتماعي من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وقد ذكر الرئيس النيجيري أوباسنجو سنة 2004 ما يلي: " نحن في افريقيا والعالم النامي نتقدم على طريق الديمقراطية، الحكم الراشد، وأتمنى ان نكون قادرين كذلك على حل وحماية المنازعات " من خلال هذا الطرح نلاحظ أن التنمية الافريقية أصبحت في قلب اهتمامات مسيري وقادة الدول الإفريقية، لأن المحيط أصبح دوما غير مؤكد ويزداد تعقيدا بفضل تعدد المعارف والقدرات والمعلومات التي تجعل من الفرد عاجز لوحده عن التحكم في التسيير فيجب الاعتراف أن كل فعل جماعي مهما كان شكله ومجال تدخله وكذا أهدافه يتطلب أن يكون مصمم وبصفة قيادية، فالحكم الراشد رديف للقيادة، وعليه فإن كل منظمة باعتبارها قناة اجراءات ووسائل للنشاط الجماعي مطالبة بأن يكون لها تسيير فعال، فلا بد من إرادة في تطوير استراتيجيات المشاركة لادماج المعنيين بالأمر في اعداد القرارات في ادماجها في بناء الاختبارات الجماعية.

لماذا الحكم الراشد؟ من خلال قراءاتنا المتعددة حول الحاكمية والحكم الراشد تبين أن هذا الموضوع الحساس والاستراتيجي كثير الانتشار في مناقشات مختلف التكتلات المحلية والاقليمية والدولية، وخاصة منذ الثمانينيات وفي سنوات التسعينيات وتجلى ذلك من محاولة الاجابة عن سؤال استراتيجي مبني من معاينتين يمكن ادراجهما كما يلي:

1-      المعاينة الأولى المثبتة: لوحظ فشل في السياسات المتبعة في العديد من البلدان السائرة في طريق النمو والتي ترجمت دوما بتبذير للموارد التي عبرت عما يعرف بسياسة المركبات الضخمة بانتاج شحيح بدل سياسة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والصناعات الصغيرة والمتوسطة الخالقة للثروة والتراكم الناتجين عن الفعالية في الانتاج وقد نتج عن السياسة الأولى مديونية مبالغ فيها وركود في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.

2-      المعاينة الثانية المؤكدة: لوحظ خلال الفترة السابقة شح في الموارد المتاحة المرتبطة بنقص تدفقات المساعدات العمومية بعد نهاية الحرب الباردة كما ظهر كذلك تهميش متزايد لبعض المناطق في العالم وخاصة منطقة الساحل الافريقي، وقد ثبت في مجال التجارة الدولية أن النسبة قد انخفضت من 3% إلى 1% من التجارة العالمية نظرا لاشكالية انخفاض أسعار المواد الأولية، والتي تشكل الأساس في صادرات البلدان النامية وخاصة البترولية منه، ولا يجب أن نغتر من الارتفاع العشوائي لأسعار البترول التي تجاوزت حدود 50 دولار للبرميل لأن هذا الأمر يبقى دوما مرتبط بعنصر المتغيرات الخارجية شأنه شأن التطورات المناخية التي يعرفها العالم منذ ثلاث سنوات (ابتداءا من سنة 2002)، فأمريكا والعالم الغربي يعيش على وقع ارتفاع أسعار النفط نظرا للتوقيف المؤقت لمعامل تصفية وتكرير النفط وكذلك موجة الصقيع والبرد التي تضرب العالم منذ هذه الحقبة، دون أن ننسى المؤثرات البيئية على الفلاحة والري والصيد البحري وغير ذلك مثل موجات الجراد والقوارض التي أتت على الكثير من المحاصيل الزراعية في البلاد النامية وبالتالي بقائها في الحلقة المفرغة للتبعية والتخلف خاصة من جانب المواد الغذائية الضرورية للسكان.

 الحكم الراشد والقيادة

 إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مسألة تعقيدات المشاكل وتعدد الأعوان في الحضور، فإن الأمر يتعلق وعلى كل المستويات للحياة الاجتماعية لاحلال الاجراءات القديمة أو السابقة في القيادة، فقد أصبحت المسألة أكثر تشاؤمية أو مبالغ فيها، فهناك آليات وميكانزمات أكثر مرونة بخصوص التنسيق والادماج ومن هنا يمكن استخلاص فعالية أكثر للنشاط والفعل، فمصطلح الحاكمية يقودنا إلى فكرة القيادة لأن المصطلح الأول يمكن وبصفة شبه تامة أن يرتبط بعلم اجتماع المنظمات لأنه يطرح التساؤلات المتعلقة بالقيادة، أي قيادة الفعل الجماعي في محيط غير مؤكد يجمع بين العديد من الأعوان حيث تكون مصالحها ومنطقها يرتبط بالتساؤل عن شروط ممارسة السلطة أو الحكم، فالحكم الراشد يسعى إلى تحقيق تغيير جذري في أسلوب ادارة الأعمال وهذا على أي مستوى نكون فيه، فالحكم الراشد يثير الانتباه بخصوص تعدد الأعوان الذين يتبعون منطقا مختلفا والذي يتدخل في عملية الفعل الجماعي، وهو يطالب إذا هذه الأخيرة مع الأخذ بعين الاعتبار لترابطات مستويات النشاط، ففي مخطط النظام أو السلطة القائمة على سلم تدرجي وتتطلب كذلك الثقة والتعاون كما أنها تمنح مزايا لتحاليل بمصطلحات المشاركة والتنسيق، فهي تذهب إلى التطابق مع مفاهيم المشروع والشراكة والوئام، فالمصطلح يقترح كذلك وفي سبيل ترسيخ القيادة أكثر من مجرد مجموعة من الوسائل والقدرات، حيث أن الهدف الوحيد يكمن في مساعدة المسير أو المنظمة لانتاج أكثر وتحقيق نتائج ايجابية، كما أنها تسمح بامكانية فتح قدرة التعلم والتمهين وتسمح بالتأثير عن طريق توسيع نظرة العالم للقيادة والعنصر المسير، كما أن الحكم الراشد يقترح التساؤل عن جملة من الأسئلة الأساسية التي تسعى إلى تغيير مستديم للممارسات الادارية بمعنى مجال ادارة الأعمال التقليدية، كما تغطي 03 أنواع من الأفكار المتغيرة مقارنة بالطرق التقليدية، وتتمثل هذه التغيرات في:

1-         جهد العقلنة الذي يهدف إلى تخفيض قسط اللاتأكد والتشكيك المرتبط بالاجراءات والصيرورات الأكثر استراتيجية والأكثر فاعلية والأكثر صرامة في اعداد الاختيارات والتقدير والتقييم التلقائي.

2-         الأخذ بعين الاعتبار وبشكل أفضل لتعدد الأقطاب المختلفة للسلطات التي تسمح بتطوير اجراءات المبادلات والتركيز والمفاوضة بين هذه الأقطاب المؤثرة.

3-         إرادة في تطوير استراتيجيات المشاركة لادماج المعنيين بالأمر في إعداد القرارات بإدماجها في بناء الاختيارات الجماعية.

نظرات على التعاريف المنهجية الاستنباطية للحكم الراشد

بناءا على ما سبق ذكره، وتبعا للتعريفات الفكرية السابقة، فقد تم استنباط تعاريف يمكن أن نضفي عليها التعاريف المدرسية، بمعنى التعاريف التجريدية العلمية القائمة على الفرز اللفظي واختيار الكلمات الملائمة ذات الدلالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتطوير التعاريف والمصطلحات بخصوص الحاكمية والحكم الراشد معناه الاعتراف الضمني بضرورة القيام بإظهار المباديء الأساسية وكذا الاجراءات الجديدة للضبط لأجل مجابهة الاختلال في التسيير المتزايد للنشاط العمومي (الفعل العمومي) وهذا ما تسعى إليه هذه التعاريف المستقاة من عينة مختارة من الأدبيات الاقتصادية المدرسية.

1-      تعريف Bagnasco et le galles:  الحكم الراشد يسعى إلى تنسيق الأعوان والجماعات الاجتماعية للوصول إلى الأهداف الخاصة المناقشة والمعرفة بصفة جماعية في محيط وفضاءات غير مؤكدة ومجزأة.

2-      تعريف Marcou, Rangeon et Thiebault: الحكم الراشد هو الأشكال الجديدة الفعالة بين القطاعات الحكومية والتي من خلالها يكون الأعوان الخواص وكذا المنظمات العمومية والجماعات أو التجمعات الخاصة بالمواطنين أو أشكال أخرى من الأعوان يأخذون بعين الاعتبار المساهمة في تشكيل السياسة.

3-      تعريف Francois xavier Merrien: الحكم الراشد يتعلق بشكل جديد من التسيير الفعال بحيث أن الأعوان من كل طبيعة كانت وكذلك المؤسسات العمومية تشارك بعضها البعض وتجعل مواردها وبصفة مشتركة وكل خبراتها وقدراتها وكذلك مشاريعها تخلق تحالفا جديدا للفعل القائم على تقاسم المسؤوليات.

4-      تعريف Commission sur la gouvernance (creé par W.Brandt,1992): ترى أن الحكم الراشد ... مجموع مختلف الطرق أو الأساليب التي يقوم بها الأفراد والمؤسسات العموميين والخواص بتسيير أعمالهم المشتركة بطريقة مستمرة يطبعها التعاون والمصالحة والتوفيق بين المصالح المختلفة وتلك المتنازع حولها، كما يدرج هذا الحكم تدرج المؤسسات الرسمية والأنظمة المزودة بالصلاحيات التنفيذية والترتيبات والتعديلات الرسمية التي على أساسها تكون الشعوب والمؤسسات قد وقعت بصفة وفاقية لخدمة مصالحها العامة خدمة للمجتمع.

خلاصة القول، ونظرا للتعقد المتزايد للمحيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المرتبط بالتأكيد على الأعوان الجدد ولمواجهة اختلالات وتطورات النظم على المستويات المحلية، الوطنية، الأوروبية، الدولية، فإن الإشكالية الكلاسيكية للحكومة قد وضعت محل شك في كفاية تنسيق الأفعال الجماعية وكذلك مجابهة التحديات الجديدة لعولمة المبادلات وعليه فإن الحكم الراشد هو المرادف الحقيقي للإصلاح العميق للدولة وحتى لوضعها محل تساؤل لإيجاد نمط جديد مرتبط بمعالجة إعادة تعريف للعلاقة بين السلطة العمومية والإدارية والمستخدمين والعملاء والسبيل الثالث في تنسيق المبادلات عبر السوق والتنسيق الحكومي.

إعادة تقييم وترتيب العناصر الرئيسية للحكم الراشد

  تبعا لما تمت الإشارة إليه سابقا فهناك عناصر رئيسية وأخرى فرعية تميز الحكم الراشد، وقد آثرنا دمجها لتصبح أكثر تعبير بصفة كلية بدل التجزيئية، ومن هذا المنطلق نذكر ما يلي:

1-     الالتزام بالمساءلة: حيث تكون الادارات العمومية مهيئة وقادرة على الافصاح عن أن نشاطها وأفعالها وقراراتها مطابقة للأهداف المحددة والمتفق عليها.

2-     قابلية الانفعال: أي أن السلطات العمومية لها من الوسائل والمرونة ما يسمح بالإجابة وبسرعة عن تطور المجتمع خدمة للصالح العام، كما أن لهذا الأمر علاقة بالفحص النقدي لدور الدولة.

3-     الشفافية: حيث تكون الأفعال والقرارات واتخاذها في بعض الأحيان مفتوحة للفحص من طرف ادارات أخرى معروفة كالبرلمان والمجتمع المدني وأحيانا حتى المؤسسات الخارجية.

4-     الفاعلية والمهارة: حيث تسعى الإدارات العمومية إلى الالتزام والتشبث بإنتاج النوعية خاصة في المصالح والخدمات المقدمة إلى المواطنين، إضافة إلى السهر على أن تكون خدماتهم تستجيب وتلبي نوايا المسؤولين للنشاط العمومي.

5-     الإستقبالية: تتمثل في تعلم ودرس الأسباب العلمية والاقتصادية والاجتماعية التي تدفع تطور العالم العصري والتنبؤ بالأوضاع التي يمكن أن تنجم عن تأثير هذه الأسباب حيث أن السلطات العمومية بامكانها ومن خلال وضعها أن تسارع وتعجل بحل المشاكل أن تطرح مستقبلا انطلاقا من المعطيات المتاحة وكذلك الاتجاهات الملاحظة اضافة إلى إقامة وتشكيل السياسات التي تأخذ بعين الاعتبار تطور التكاليف والتغيرات المرتقبة في مجال الديمقراطية والاقتصادية والمحيط.

6-     أولوية الحق: أي إيجاد أسبقية للقانون، وهكذا نجد أن الهيئات العمومية تقوم بتطبيق القوانين والتنظيمات وكذا القوانين الخاصة بكل مساواة وشففية مع اشراك المواطنين في الإعلام والاستشارة والمشاركة للجمهور في عملية اتخاذ القرارات ولن يتأتى ذلك إلا بتقوية العلاقات بين الإدارات والمواطنين.

منهجية مؤشرات الحكم الراشد

 قبل التطرق لهذه المؤشرات، لا بد من التطرق لخصوصيات ومنهجية هذه المؤشرات، والمتمثلة في: إن للمؤشرات دلالات ينبغي أن تبرز بعض الخصوصيات النوعية مثل:

1-     ضرورة ايجاد تمثيل للظاهرة التي نريد قياسها حتى يصبح ذا دلالات ومعان.

2-     المؤشرات ضرورية وكافية للدلالة وبأسلوب غير قابل للنقاش لأجل الوصول إلى الأهداف المرجوة بغية استغلال كل المعطيات والمعلومات لخدمة الطرف العلمي للحاكمية.

3-     المؤشرات حساسة أي يمكن أن تتأثر بكل تغيير حتى وإن كانت شدته أو كثافته ضعيفة.

4-     المؤشرات واضحة أي لا بد وأن تكون هناك مصداقية في الأهداف المرجوة.

5-     المؤشرات قابلة للقياس ومتاحة بصفة دورية في عينة عشوائية عريضة، وخاصة إذا ما علمنا أن هناك أطر قانونية وسياسية وتشريعية من ناحية الميول لدى المواطنين باعتبارهم من الروافد الأساسية لأجل ترسيخ الحكم الراشد في البلد، فهذه الأطر تسمح بالوصول إلى المعلومة باعتبارها الشرط الأساسي الأولي لبناء السياسات وتبعا لذلك الوصول إلى الأهداف، كما ينبغي أن تكون هناك استشارة نابعة من النواة الصلبة لاتخاذ القرارات حول السياسات العمومية وفق مشاركة فعالة للمجتمع تمثل حدودا جديدة من واقع تكييف الوسائل بالأهداف واستغلال القدرات التكنولوجية للاعلام والاتصال مع التقدير وتقييم للقدرات المتاحة، ويتعين على الجهاز أو الأجهزة المنشطة لاستراتيجيات الحكم الراشد في البلد توعية وتثقيف المواطنين بأهم المباديء المسيرة لأجل تجنيدهم في عملية اتخاذ القرار، وهذه المباديء بطبيعة الحال مشتقة بمنهجية موسعة من مباديء الحكم الراشد السابق ذكرها، والتي يمكن تلخيصها في التالي:

5-1- وضوح وجلاء الرؤية الفعلية للمواطن.

5-2- الزام معرفة وتطبيق القانون.

5-3- التجند والإلتزام.

5-4- الرزنامة المتدرجة في تحقيق الأهداف والأفعال.

5-5- الموارد.

5-6- التنسيق الفعال.

5-7- الموضوعية.

5-8- الإلتزام بالمساءلة وتقديم عروض الحالات.

5-9- التقييم.

5-10- المواطنة الفعالة.

المؤشرات الأخرى التكميلية للحكم الراشد

أ- المؤشرات تطبق وفق تدرج المراحل والصيرورات: لأجل ذلك نذكر أن هناك: المؤشرات المتعلقة بالأنشطة و التي تركز على انجاز مختلف أنشطة برنامج الحكم الراشد من أجل استخدام مرن وسهل مما يساعد بالاستخدام وبكثرة لتحقيق قياس الانتاجية الادارية للخدمات، كما أن هناك مؤشرات النتائج مثل منظمة للانتخابات الحرة مرفقة بالتعددية وحذف الترخيصات الأولية التي تعرقل الاجتماعات الخاصة بالجمعيات وتنشيط هذه الاجتماعات في إطار الشفافية والديمقراطية، لأن هذه الأمور هي التي تسمح بتبرير استخدام الأموال وتعريف أهداف برامج الانفاق العمومي وكذلك الرقابة الأولية لمطابقة العمل الاداري بالأهداف السياسية وكدلالة على ذلك هناك شفافية وحاكمية من واقع القانون العضوي المتعلق بإعداد القوانين المالية والذي تبنته الكثير من البلدان ومن بينها الجزائر مؤخرا، هناك كذلك مؤشرات الفعل والأثر ومنها مؤشر الرشوة وعدد اقتراحات المشاريع المصادق عليها وبمبادرة من لمعارضة في البرلمان وكذلك عدد الطعون الإدارية وعدد المتابعات المشكلة بعد القيام بمراقبة تسيير الأموال العمومية، فهذه المؤشرات هي التي تحدد التقديرات وتبرز عن بعد التحولات في القرارات البراغماتية، لأن مستخدمي المؤشرات ليسوا هم نفسهم على مستوى مختلف مراحل عمليات مرتبطة بالأنشطة والنتائج والآثار، وهناك أسئلة وفي إطار الحاكمية الجيدة يمكن أن تثار عدة أسئلة من طرف شركاء البلد الأجانب خاصة مع تفعيل نشاط الإتحاد الأوروبي والمنظمة العالمية للتجارة، ومن هذه المنطلقات يمكن أن تكون هذه الأسئلة كما يلي:

1- ما هي تكلفة انتاج المؤشر؟.

2- هل المؤشر دوما مرتبط بالمصلحة العامة؟

3- هل المؤشر مقبول لدى السكان المحليين وكذا المقيمين والمستثمرين الأجانب؟

4- هل استخدام المؤشر يمكن أن يكون منبعا للرشوة؟

ب- حالة التغير في تطبيق نماذج المؤشرات: يمكن أن نستند ونميز بين عدة مؤشرات تعكس الاجراءات التطبيقية والتي تظهر كما يلي:

ب-1- مؤشرات القانون والحق: بمعنى هل القانون يعترف به في البلد؟ وهل حقيقة أن القانون موجود؟

ب-2- مؤشرات لمسؤولية: هل أن الشروط التمهيدية للمارسة الحق والقانون مغطاة؟

ب-3- مؤشرات النتائج: في هذه الحالة يطرح سؤال من نوع: كيف يمكن للالتزام والتجنيد أن يتجسد في الأفعال وكيف يتم قياس الفاعلية؟

ج- المؤشرات المتعلقة بالجيل الثاني والخاصة بالبنك لدولي: يميز البنك الدولي بين العديد من المؤشرات والتي يمكن اجمالها في: هناك مؤشرات التقدم والتطور التي تقيس التقدم في العمليات واجراءات الحاكمية من حيث التطور في التحكيمات الحكومية والعمليات الموازنية والبرمجة والتنبؤات، كما أن هناك مؤشرات للفاعلية وهي التي تقيس النتائج مثل تفعيل وتحصيل نوعية الخدمة المقدمة من طرف لمواطنين من حيث أن الرأي العام قد حكم على ذلك بأنها ذات معنى، وكمثال على فعالية بعض المؤسسات الاستشارية في العالم نذكر معهد البحوث والتطبيقات مناهج التنمية (IRAM)، والذي له أكثر من 40 سنة من الخبرة في مجال تطوير الكفاءات وفي أربعة مجالات متكاملة تتمثل في: السياسات الفلاحية والأمن الغذائي، التنمية المحلية وتسيير الموارد الطبيعية، التمويل المحلي والتمويل الجزئي، التنظيم الريفي والمؤسسات المصغرة. وهذه النقاط السابقة تطورت لمواجهة التحولات العالمية التي تتبناها الكثير من البلدان ومن بينها الجزائر والتي هي مدعوة وأكثر لتقوية قدرات وكفاءات المنتخبين المحليين عبر إعداد مخطط تكوين لهؤلاء وخاصة في تفعيل تسيير البلديات وتبعا لذلك التنمية المحلية، ولن يتأتى ذلك إلا بعد معرفة مناهج سيرة المكونين الساهرين على تكوين المنتخبين المحلين الذين وفي إطار الحكم الراشد سيساهمون في فعالية التسيير لتثمين السياسات الوطنية للدولة في محاربة الرشوة والتسيب وغير ذلك.

الطرق المستخدمة لمعرفة خواص ومؤشرات الفعالية والحكم الراشد.

من خلال قراءاتنا المتعددة، تمكنا من الوقوف على جملة من هذه الطرق نذكرها بدون تسلسل منهجي، ويتلق الأمر بـ:

1-      وضع مخطط تدفقي للأهداف وإطار منطقي للأنشطة على أن يربط ذلك بالتحليل الجماعي للمشاكل.

2-      تحليل القطاع، الوضعية، الموازنات، ... التشخيصات.

3-      تحليل SWOT القائم على تحليل: القوة/ الضعف، الامتيازات والفرص/التهديدات

4-      تحليل حقل القوة من أجل التغيير أو الاستمرار على وتيرة التسيير العادي.

5-      نموذج الأزمة: يدرس تحليل تناقضات المحيط لتبيان نقاط الأزمة وكيفية حلها.

6-      استقصاءات الرأي العام، جماعات النقاش الفعالة الرسمية وغير الرسمية.

إن هذه الطرق ينبغي وفي إطار الحكم الراشد أن نأخذ تلك التي تفترض عملا معمقا يؤدي مع كل الأطراف المعنية وفي كل مرحلة من لمراحل (من التشكيل، إلى مستوى ومخطط الجمع، إلى تحليل المعطيات، إلى إبراز وتجميع المؤشرات). وهذه كلها تعود أساسا إلى قاعدتين أساسيتين تتمثل في التخصصات المتعددة والمشاركة.

من خلال هذه المحاولة لتحليل ومعرفة خبايا الحكم الراشد، يمكن القول أخيرا أن الحاكمية هي الأسلوب الذي عبره تقوم الحكومات بتسيير الموارد الاقتصادية والاجتماعية لبلد ما، بينما الحكم الراشد هو ممارسة السلطة عن طريق مختلف الطبقات الحكومية بطريقة فعالة، شريفة، عادلة ومنصفة، شفافة ومسؤولة، وإن برامج الحاكمية تمس تشكيلة كبيرة من المجالات مثل: تقوية الكفاءات في القطاع العمومي والذي يحسن من فعالية الوظيفة العمومية عن طريق اقامة إصلاحات تنظيمية وإدارية واستراتيجية، فالجماعات المحلية ومن خلال اللامركزية للحكومة داخليا وخارجيا يزيد في الفعالية والالتزام بالمساءلة بمعنى أن الدولة تكون موجودة على مستوى كل القنوات الإدارية وهذا ما يجعل من محاربة الرشوة الموجودة أو الممكنة تسمح بممارسة كل الصلاحيات التي تستغل لإقامة الحكم الراشد لأن النظام القانوني أو التشريعي المستقل والمقبول هو أساس الإدارة السليمة والحقيقية والمتخصصة.

الدولة المعاصرة والحكم الراشد.

 يرى برنار كونت ومن خلال موضوع الحكم الراشد نيولبرالي أن: بلدان الشمال تتغنى بالحكم الراشد بطريقة مباشرة أو عبر المؤسسات الدولية التي تسيطر عليها وتسيرها، ففي هذا الإطار فأن البنك الدولي يضمن دور ما يعرف بالزعيم عبر وثيقتين أساسيتين هما: الحكم الراشد والتنمية (1992) والحكم الراشد وآفاقه (1994)، إذ أن مصطلح الحكم الراشد يؤخذ بعد ذلك وبصفة ميدانية عبر مجموع مقرضي أموال التنمية، كما أن PNUD ترى أن الحاكمية هي ممارسة سلطة سياسية، اقتصادية، ادارية لأهداف تسيير أعمال بلد ما وهي تقوم على آليات وميكانيزمات وعمليات وكذا مؤسسات تسمح للمواطنين والجماعات بالتعبير عن المصالح وتسوية النزاعات وكذلك الحصول على حقوق والقيام بالتزامات، وتبعا لذلك هناك ثلاث روافد للحاكمية تتمثل في: الدولة أي السلطة التشريعية، السلطة القضائية، المصالح العمومية والقوات المسلحة، فالدولة هي التي تقوم بخلق محيط سياسي كما تتمثل كذلك في القطاع الخاص من المؤسسة الصغيرة إلى المؤسسة الكبيرة التي تخلق مناصب الشغل والمداخيل وتبعا لذلك التراكم، كما أن هناك المجتمع المدني أي الهيئات غير الحكومية والمتضامنة مع بعضها مثل الجمعيات المهنية والجماعات الدينية والجمعيات النسوية وكل المواطنين الذين يساهمون في التفاعل السياسي والإجتماعي، وأن كل عنصر من هذه العناصر الثلاث له مراحل محددة، فالدولة تدافع عن المصالح لأجل النفع العام كما تحفز وتشجع على خلق جو نشيط خدمة للتنمية البرشرية كما أنها تسهر على احترام القانون والحفاظ على الأمن والسعي لخلق تعريف ونظرة وطنية كما تعرف السياسات والبرامج العمومية وتقوم بتحضير الميزانية التي تنفذها بعد ذلك كما أنها تنظم وتشجع السوق أما القطاع الخاص فانه يسير وينشط داخل السوق السابق الذكر لأجل انتاج السلع وتوفير الخدمات وخلق وسائل الاحلال كالشغل للمواطنين وتشجيع المؤسسة الخاصة أما المجتمع المدني فانه يقوم بتعبئة وتجنيد جماعات المواطنين لأجل المساهمة في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية و السياسية كما أنها تقوم بتشكيل كمية من وجهات النظر الديناميكية والمتعددة والمخطط التالي يبرز دور الحكم الراشد كرافد لقوة الدولة.

شكل رقم 01: ترابط العناصر الفعالة للحكم الراشد

 
 المجتمع المدني


الدولة


القطاع الخاص




  









  من هذه الدوائر المتقاطعة،  نلاحظ أن الحاكمية تتضمن الدولة من خلال ادراج القطاع الخاص والمجتمع المدني لضمان ديمومة التنمية البشرية فالمجتمع المدني يسهل تقاطع الفعل السياسي والاجتماعي عبر تعبئة الجماعات حتى تقوم بمشاركة في الانشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولكل واحد نقاط ضعفه ونقاط قوته ، بمعنى أن هناك هدفا أسمى  لدعم الحكم الراشد يتطلب بالضرورة ترقية التقاطع البنائي بين الدوائر الثلاث سابقة الذكر.

دور الدولة في اقتصاد السوق الاجتماعي.

 لقد تم التأكد أن الوظائف الأساسية للدولة في اقتصاد السوق الاجتماعي تصحح نقائص احتكار السوق وتساهم في عدالة وانصاف أكثر في أنشطة الدولة بحيث يمكن أن تتركز على مستويات متعددة للتدخل من واقع الوظائف الثلاث للدولة والمتمثلة في: الوظائف الدنيا، الوظائف الوسيطية، الوظائف الفعالة، والجدول التالي يعكس دور الدولة لترقية اقتصاد السوق  الاجتماعي في ظل الحكم الراشد من خلال تصحيح نقائص تطوير السوق وتطوير الانصاف والعدل فيه لأجل اعادة توزيع أمثل للمداخيل مع ضمان السلم الاجتماعي، فالدور النسبي للدولة دوما في إطار السوق يسمح بممارستها للسلطات الاقتصادية والسياسية والادارية بتسيير الاعمال من خلال الآليات والإجراءات والمؤسسات التي عن طريقها يقوم المواطنون بتركيز لمصالحهم وممارسة حقوقهم الشرعية وتغطية التزاماتهم، فالحكم الراشد من ضمن الأشياء الأخرى عبر روافد المشاركة والشفافية ومن مبدأ الدعامات الأساسية الاقتصادية والسياسية والإدارية التي تتضمن دوما الدولة التي تدرج إدماج القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني.، ولأجل فهم أكثر لوظائف الدولة تحت فلسفة الحكم الراشد نقدم الجدول التالي من واقع تقرير التنمية في العالم المقدم من طرف البنك الدولي سنة 1997

جدول رقم 01: الوظائف الحيوية للدولة المعاصرة.

تطوير الإنصاف والعدل                                                  تصحيح نقائص تطوير السوق

حماية الفقراء، برامج محاربة الفقر، النجدة في حالة الكوارث
توفير السلع والخدمات العمومية، الدفاع، القانون والنظام، حقوق الملكية، التسيير الاقتصادي الكلي، الصحة العمومية
الضمان الاجتماعي: إعادة توزيع المنح العائلية، التأمين على البطالة
تفعيل وتصحيح نقائص وتطوير الإعلام: تنظيم التأمينات (الأمراض، الحياة، التقاعد، المنح) التنظيم المالي، حماية المستهلكين
تنظيم الاحتكارات: تنظيم المصالح العمومية (الماء، الكهرباء، المواصلات السلكية)
السياسة المضادة للتروست
الوظائف الدنيا

 
ضمان الفعاليات: التعليم الأساسي، الحفاظ على البيئة
 
إعادة التوزيع: إعادة توزيع الأصول
تنسيق الأنشطة الخاصة: تشجيع الأسواق، تجميع وتحفيز المبادرات



الدولة والمواطنون تحت ضوء الحكم الراشد

 إن المناخ السياسي والاقتصادي الصعب الملاحظ اليوم في الكثير من البلدان وخاصة النامية منها، والجزائر من بين هذه البلدان التي يعترف فيها حتى رئيس الجمهورية بأن الدولة معتلة ومريضة ولا بد من علاجها، وأحسن ترياق لذلك يكمن في الحكم الراشد الذي أصبح حديث العام والخاص في الجزائر، وفي الكثير من البلاد النامية وحتى المتطورة منها، هناك نقاشات حادة من الوضع السابق الذكر ولذا هناك دعوى لصالح عودة الدولة إلى الكثير من المجالات رغم أنه لا يمكن تحصيل بعض الأشياء في حالة الرجوع إلى النماذج القديمة والمؤسسات الأكثر اتساعية واحترافية، فالشفافية والمشاركة   هما أكثر أهمية من أي وقت مضى في سبيل ترسيخ الديمقراطية والاستقرار، لأن تقوية العلاقات بين الحكومة ومواطنيها يبدو وـأنها أولوية فعالة في سبيل اثراء الديمقراطية والتي لا يمكن التذكير بهارغم الاتهامات في كل الجوانب والتي تجعل من الحكومات مشجبا لكل السلبيات وخاصة الجماعات المحلية كالولاية والبلدية، وتبعا لذلك هناك تهمة توجه للجماعات المحلية بأنها أكثر إهمالا للمواطنين وبأنها ليست فعالة من ناحية الاستماع إلى انشغالاتهم وكذلك عدم قبول مساهماتهم وآرائهم من خلال جمعياتهم المتعددة أو الشكاوى الفردبة وهذا الوضع أدى إلى الكثير من المظاهرات والاحتجاجات التي أصبحت سمة من سمات الرد الرفضي للمواطنين تجاه الإدارة المحلية، ويمكن تبعا لذلك وكل صباح تصفح الصحف اليومية خاصة في الجزائر لتعرف حجم الاحتجاجات بخصوص المياه، السكن، البناء الفوضوي، الشغل، السوق الموازية، الصحة، التربية، ...الخ، وكل هذه الأمور يتعين أن تعالج في شفافية عن طريق زيادة منتظمة في معدلات المشاركة الانتخابية وصنع القرار مع طلب شفافية أكبر ومسؤولية للسلطات العمومية بالمقارنة مع تزامن درجة نمو لدى المجتمع ولدى وسائل الإعلام من خلال الفحص الحرج لنشاط الحكومات، وبالموازاة مع ذلك، هناك إشكالية جديدة من التمثيلات والمساهمات في المحيط العمومي والتي تتم يوما بعد الآخر في كل البلدان، كما لا يمكن القول كذلك أن هناك قيام الفحص والمعالجة وكذا المساهمة ولكن هذه الأمور تعالج بطرق غير عقلانية وغير شفافة من باب البحث عن السهولة وتكريس الرداءة، كذلك لا يمكن النكران أن هناك خطوات موجودة ولكنها تتقلص لمجرد مجموعة من المسائل النوعية والتي تتطلب مصلحة عمومية ففعالة مثل الحفاظ على البيئة أو تلك المتعلقة بالمستهلكين وبقوة الاجراءات والخطوات، فعلى مستوى الحكم المحلي فإن المواطن المحلي يطالب دوما بالديمقراطية وحقوق الشغل والمواطنة، وحرية الانتخابات، مما يستلزم رجوع الدولة بعد غياب متواتر لظروف موضوعية بحيث تسترجع هبتها في كل المجالات كجزء أو طرف فعال في العملية لديمقراطية والتشريعية، وفي بلد كالجزائر يلاحظ رجوع بعض أمراض حقبة الستينيات كالجرب، السل وغير ذلك مما يطرح من جديد مشكلة الصحة أي صحة المواطن كونها مجالا حيويا، ونجد ذلك راسخا في فرنسا من خلال اللجان المشكلة في إطار المؤتمرات الوطنيو الجهوية للصحة، وفي بلد كالدانمارك هناك مجموعات للدفاع عن المرضى، في الجزائر هناك مشكلة الطفولة المسعفة والمشردين والمتسولين التي للمنتخبين المحليين واجب التكفل بهم من واقع الميزانيات المالية المحلية المخصصة لذلك، لأن الجمعيات اليوم أصبحت تمارس ضغوط حقيقية لتجسيد طموحات المواطن وخاصة لجان الأحياء من واقع المشاركة الأولية لتصبح أكثر امتدادا وتوسيعا وفي كل المجالات السياسية العمومية من الموازنة إلى نماذج سياسات المساعدة الأجنبية.

إشكالية الدولة والحكم في الجزائر

في الجزائر، هناك أزمة دولة وأزمة حكم باعتراف الكثير من المفكرين والسياسيين والمسيرين وقد ذكر السياسي الدكتور أحمد طالب الابراهيمي في هذا السياق: " إن الرئيس بوتفليقة قد تمكن من تغيير واجهة الحكم ولكنه لم يغير طبيعة وآليات الحكم وتعامله مع أزمة البلاد " وعند دراستنا للوقائع السياسية والفلسفية للحكم في الجزائر، نجد نظرة الأمير عبد القادر الجزائري لبناء الدولة وكيف تتم وكذلك نظرة الشيخ عبد الحميد بن باديس لنفس لبناء وكيف يتم، ويمكن القول أن بن باديس له نظرة استشرافية بخصوص الحاكمية والحكم الراشد وكيفية تطبيقهما في العالم الإسلامي وتبعا لذلك الجزائر (أنظر: عبد الله شريط، 1987)، كما يشير الباحث الدكتور أحمد بلوافي إلى أن مسألة الهيمنة على الحكم في الجزائر تجسدت في مؤتمر طرابلس حيث ظهرت الصراعات حول الوجهة التي تبنى عليها الجزائر المستقلة، وقبل هذا المؤتمر الذي عقد عام 1962 كان هناك مؤتمر الصومام عام 1956 الذي لعب فيه الشهيد عبان رمضان المثقف والواعي دورا رائدا زفي سبيل تحديد دور السياسي ودور العسكري وإعطاء أولوية السياسي على العسكري، وأولوية الداخل على الخارج، إلا أن النواة الصلبة المسيرة لآفاق الانطلاقة الجديدة للدولة الجزائرية غلبت السلطة العسكرية بحكم تنظيمها وانضباطها وهذا ما انعكس على رسم معالم الدولة التي ستحصل على استقلالها، كما يستدل نفس الباحث بمقولة الرئيس الراحل بومدين الذي كان يردد عبارته الشهيرة في التكتل لنجاح الحكم بقوله: يجب أن نعمل كصفيحة من الفولاذ. ولعل لهذه العبارة مبرراتها آنذاك بحكم صور الفوضى والتسيب التي رافقت الاستقلال الوطني، وقد ظهر دستور 1976، الذي أعطى أبعاد الدولة الجزائرية في ظل حكم الحزب الواحد، بينما دستور 1989 قدم قفزة نوعية في ترسيخ الديمقراطية عبر إقراره بإنشاء الجمعيات السياسية والتي تعبر عنها الأحزاب في إطار التعددية السياسية وترسيخ الديمقراطية والمشاركة وتمت تعديلات أخرى بخصوص قوانين مرفقة لزيادة الانفتاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي (إقرار اللغة الآمازيغية).

قياس قوة الدولة من خلال أدوارها الحيوية

قبل تقديم مؤشرات قياس الدولة الجزائرية، ورغم أننا تكلمنا وعالجنا دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلا أننا أغفلنا مفهومها العلمي، فنجد ضمن المصطلحات الاقتصادية والسياسية طرح تدخل الدولة لكن وكما يرى (قدي،2003، ص: 08) فإن التصنيفات المستخدمة تتبنى مفاهيما ومصطلحات أخرى كون الدولة مصطلح سياسي بالدرجة الأولى يعبر عن مدلول صعب الضبط كميا واقتصاديا، ولهذا نجد مصطلح الادارة العمومية أو مصطلح الحكومة (gouvernement)، فبالنسبة لمصطلح الإدارة العمومية أو الحكومة يتم استخدامه في مجال المحاسبة الوطنية في تصنيفها للأعوان الاقتصاديين، حيث تعبر الحكومة عن " أنواع فريدة من الكيانات القانونية تنشأ بعمليات سياسية ولها سلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية على وحدات مؤسسية أخرى في منطقة، ووظائف الحكومة تتمثل في تولي مسؤولية توفير السلع والخدمات للمجتمع وتمويل توفيرها من الضرائب أو الايرادات وإعادة توزيع الدخل والثروة بواسطة التحويل والاشتغال بالانتاج غير السوقي "كما أن الدولة وفي تدخلها في الحياة الاقتصادية لها أنصار ومعارضون من حيث فكرة هل السوق أو الحكومات لها القدرة على تخصيص الموارد، ويستدل أنصار التدخل الحكومي بجملة من الحجج مثل: عجز السوق عن اصدار الاشارات السعرية الملائمة، عجز السوق عن تحريك الموارد من استخدام لآخر، عدم توفر بعض الأسواق بشكل كاف خاصة في الدول النامية، العدوى الهولندية والتي أصبحت لها نظرية بخصوص اعادة تخصيص عوامل الانتاج والذي يحدث استجابة لصدمة إيجابية بسبب اكتشاف مورد ما أو ارتفاع سعره في الأسواق المالية كحالة البترول، أما معارضي التدخل الحكومي، فلهم بدورهم حججهم والمتمثلة في: إن إلغاء أسعار السوق تؤدي إلى الغاء الدور الاقتصادي للسعر مما يجعله عاجزا عن عجز الندرة والتكلفة، كما أن نشاط المؤسسة يعمل على تلبية احتياجات خاصة وقد تكون حتى لأغراض انتخابية، كما أن نتائج المؤسسة لا تتحدد على أساس نشاطها الفعلي المرتبط بالرشادة الاقتصادية ولكن استمرارها رهين القرارات الادارية.

كا يوجد تفسير لقياس حجم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، ومن رواد ذلك الاقتصادي الألماني wagner الذي حاول ايجاد علاقة تربط مستوى التطور الاقتصادي بحجم الانفاق العام وينطلق من فكرة أن التصنيع يؤدي إلى ارتفاع تدخل الدولة وحصة الانفاق العام في الدخل الوطني وتبعا لذلك يقود إلى مضاعفة نفقات الادارات العامة من حيث الهياكل القاعدية والتربية والنشاط الاجتماعي (قدي، 2003، ص: 15) وقد فسر wagner توسع حجم الدولة وفق ثلاثة أسباب تعمل على زيادة دورها في النشاط الاقتصادي وتتمثل في: عامل التصنيع والتحديث الذي يؤدي إلى إحلال الأنشطة العامة محل الأنشطة الخاصة، والتعقيد الناشيء من ذلك يؤدي إلى زيادة الحاجة إلى السلطات العمومية قصد الحماية والتشريع والتنظيم، كما أن هناك عاملا لا يقل أهمية عن الأول ويتعلق الأمر بعامل نمو الدخل الحقيقي لأن هذا المؤشر يؤدي إلى التوسع في الانفاق على الرفاهية والصحة والتعليم وغير ذلك، كما أن هناك عامل ثالث وأخير يتمثل في التطور الاقتصادي والتكنولوجي الذي يؤدي إلى سيطرة الحكومة على إدارة الاحتكارات الطبيعية في إطار سيادتها سعيا لزيادة كفاءة الأداء الاقتصادي وتوفيرالاستثمارات الضرورية في القطاعات التي يحجم عنها الخواص، وقد صيغ قانون wagner كما يلي:

G/Y= F(Y/N) حيث أن: G يمثل حجم النفقات العمومية، Y الدخل الوطني، N عدد السكان، حيث يشير الاشتقاق : dG/Dy>0 أو أن مرونة النفقات العامة بالنسبة للدخل الوطني تكون أكبر من الواحد الصحيح (قدي، 2003، ص: 17)، كما أن هناك تفسيرات لقياس حجم الدولة في الاقتصاد من حيث أن البرامج المدعومة من طرف الصندوق النقدي الدولي تسعى إلى تخفيض الانفاق الحكومي وتقليص حجم الدولة في الاقتصاد، وهناك معايير لقياس حجم الدولة في الاقتصاد الوطني من بينها:نسبة الانفاق العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، نسبة الاستهلاك إلى الناتج المحلي الإجمالي، نسبة الاستثمار العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.

أما المجالات الجديدة لتدخل الدولة في ظل العولمة التي أفرزت وضعا جديدا حتى تراجعت فيه قرارات السيادة الوطنية للدول وانتقال مراكز القرار الاقتصادي إلى مراكز فوق وطنية، وهكذا نجد ظهور وظائف جديدة للدولة والتي ترتبط كذلك بفلسفة الحكم الراشد كما ذكرنا مثل: محاربة الفقر والتخفيف من حدته، محاربة الفساد الاقتصادي، حماية المستهلك، الاهتمام بتوفير الأموال اللازمة للتكفل بالبحث العلمي الأساسي، حماية البيئة، كما تجدر الإشارة إلى أن السياسة الاقتصادية كما يراها Xavier Greff تتمثل في كونها مظهر من مظاهر تدخل الدولة ويعتبرها بأنها "مجموع القرارات التي تتخذها السلطات العمومية بهدف توجيه النشاط في اتجاه مرغوب فيه" (أنظر قدي، ص: 24).

الطرح الفكري الوطني للحكم الراشد في الجزائر(بين الأمير عبد القادر وعبد الحميد بن باديس)

بعد هذه الطروحات العلمية والفكرية حول الدولة وأهميتها، نرى وأنه من الضروري معرفة عراقة الدولة الجزائرية ليس من واقع التنظيرات المعاصرة القائمة على فلسفة التاريخ إلى المزبلة كما ردده تلاميذ الثانويات في الجزائر العاصمة في حقبة الثمانينيات لمسخ كينونة وعبقرية الدولة الجزائرية العريقة، لولا التصدي الفكري من طرف نخبة من أبناء الجزائر الواعين أمثال الدكتور عبد المجيد مزيان،الدكتور محمد العربي ولد خليفة، الأستاذ مولود قاسم، الدكتور أحمد طالب الابراهيمي لهذه الحملة الشرسة المخططة لضرب الشخصية الوطنية، ولعلني أتذكر أن الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان لما زار الجزائر عام 1975، صرح بأن فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة، مما يعني استخفافا منه بعظمة الدولة الجزائرية عبر التاريخ، وقد رد على هذا الاستفزاز مفكر الجزائر الراحل مولود قاسم بقوله أن الجزائر دولة عريقة احتلت واسترجعت استقلالها (l’Algerie est redevenue independante )، ولعل في كلمة redevenue  معان كثيرة حول الدولة الجزائرية، ويرى الدكتور عبد الله شريط في كتابه " مع الفكر السياسي الحديث، 1986 " أن هذا الفكر السياسي في الجزائر يمكن أن يرجع إلى الأمير عبد القادر الجزائري كمشروع عمل وإلى الشيخ عبد الحميد بن باديس كمشروع نظرية اسلامية مستقلة عن التيارات الفكرية السياسية الأخرى التي تأثرت بها الأحزاب الوطنية في الجزائر قبل الثورة أو مواثيق جبهة التحرير أثناء الثورة وبعدها، ويستدرك الدكتور شريط كلامه عن الدولة ومشكلة الحكم عند بن باديس والأمير عبد القادر في أنه لا يمكن أن ننسب إليهما خلق نظرية كاملة أو متكاملة عن الدولة لأن الأمير عبد القادر جاء عند انقراض الدولة الجزائرية أما الثاني فقد جاء عند بداية بعثها من جديد، ولو أنني أتحفظ على كلمة انقراض وكنت أحبذ استخدام اهتزاز أركان الدولة، لأن كيان الدولة الجزائرية لم ينقرض وإنما تعرض لهزات خرج منها كتلك الشجرة أو النخلة متينة الجذور، فالرجلان السابقان يشتركان في وجود خاصية الفراغ بمعنى غياب ما يمكن تسميته بخميرة الدولة المتمثلة في الشعب المعطل من الدولة وهكذا نجد أن الأمير عبد القادر خلق من هذا الشعب دولة فعلية على بقايا دولة العثمانيين، كما أن ابن باديس لجأ إلى الشعب بعد قرن ليبحث فيه عن البذرة الأولى للدولة معتمدا في ذلك على تكوين الانسان أولا ويختلف الرجلان تبعا لاختلاف ظرفيهما في كون الأمير كانت الدولة عنده مجرد أجهزة للعمل بينما كانت عند ابن باديس بحثا عن المقومات الأولى للدولة كفكرة، وقد تشكل من نقاط التقائهما واختلافهما نوعا من التكامل بين الفكرة والعمل حتى وإن سبق العمل الفكرة في هذا المضمار، وأبرز ما يميز هذه الدولة عند الرجلين في كونها فكرة وعمل هي الديمقراطية كمبدأ أخلاقي (شريط، ص: 98)، لم يرث الأمير عبد القادر الحكم كما يرثه الملوك والأمراء في ذلك الزمان وحتى يومنا هذا، وقد أصبح الحكم يورث في بعض مناطق العالم العربي والإسلامي حتى في الدول الجمهورية، فالدولة عند الأمير عبد القادر انبثقت عن إرادة شعبية ومباعة شرعية (البيعة تحت شجرة الدردارة المعسكرية التي لا تزال شامخة إلى يومنا هذا، 2005) وهذا السلوك في الحكم نادر في العالم الإسلامي والعربي تبعا للكثير من الخلفيات التي لا داعي لذكرها، وقد أقام الأمير عبد القادر دعائم دولته على ستة مباديء نراها أكثر تطورا من مباديء الحكم الراشد في الألفية الثالثة والقائمة على التنظيرات المرتجلة خدمة لمصالح الدول العظمى في إطار استراتيجيتها المتزايدة في نهب الثروات تحت غطاء الشفافية اللفظية وحرية الشعوب التي جعلت من الفوضى والتخريب مقياسا للديمقراطية الحقة، وتتمثل هذه المباديء في(شريط، ص: 98)

1-     الدولة يجب أن تكون متشبعة بروح الدين وليس بأحكامه الفقهية وحدها.

2-     إلتزام رأي الجماعة أو ما يعرف اليوم برأي الأغلبية.

3-     مبدأ الالتزام بحكم القانون مهما كان بسيطا التزاما عمليا وهو القائل سأحكم والقانون في يدي.

4-     اعطاء مكانة لجبهة البناء الداخلي للدولة كأهمية أولى قبل الجبهة العسكرية ضد الفرنسيين.

5-     ربطه بين الحكم والتوحيد أو بين الخروج عن حكمه وبين الخروج عن الدين والوقوع في الشرك، فدولة الأمير ذات المنحى الإسلامي بقوانينها وهي في حالة حرب مع عدو كافر غشيم.

6-     اشراك مجلس العلماء معه في الحكم وفي اتخاذ القرارات حتى يكون حكمه ممثلا لأوسع شريحة من الجماعة أي دولة الأغلبية.

هل يمكننا الآن وكجزائريين أن نتهم واضع هذه المباديء الصالحة للبلد في مرحلة صعبة بالكسل الذهني أو بأن هذه الأفكار الاستشرافية تعكس فقط وجهة نظر في الحكم صالحة لتلك الفترة فقط، مما لا شك فيه أن الأمير بفكره الديني الصحيح وعبقريته الاقناعية والحربية ونظرته الحكيمة للأشياء كفيل بأن يكون في عداد منظري فلسفة الحكم الراشد، بل ويتفوق عليهم في نقاط التشبع بالفكر الديني والتوحيد وبالمشاركة الإيجابية وليست الديماغوجية الماسخة والتي زادت العولمة في مسخها، أما الشيخ عبد الحميد بن باديس وكما يرى الدكتور سعد الله (ص: 108، 109، شريط) فإن خلق جمعية العلماء المسلمين لجزائريين كانت ستبقى حلما لولا قيادة ابن باديس الحركية الحيوية، فابن باديس أثر كثيرا في المجتمع الجزائري كما كانت حياته نموذجا لباقي المثقفين الجزائريين الذين يعرفون بالنخبة الأولى وهكذا يرى ابن باديس أن أساليب القرن الماضي قد انتهت وأنه لا بد من اتباع طريقة التنظيم الحديث بالاعتماد على الدين نفسه، وهذا يعني أن الفكر الديني الوطني للأمير قد تواصل عند رجال جمعية العلماء وهو يخضع لمقتضيات عصر ابن باديس وليس مقتضيات عصر الأمير عبد القادر، فابن باديس يرى أن عملية التغيير الاجتماعي ينبغي أن تنطلق من داخل لا الذات أو الضمير الانساني وهنا يقر ابن باديس بالإسلام الذاتي أو العقلي فمبدؤه الفكر والنظر ولحمته البرهان وبناء العمل على العلم (شريط: ص: 113)، نستنتج أن ابن باديس بدوره كانت له رؤية استشرافية للحكم الراشد فالدولة الإسلامية عنده تجمع بين ما قد يبدو تناقضا في الظاهر إلا أنه في الحقيقة تكامل فيها فهي تجمع بين القوة والرحمة في آن واحد، القوة على النفس وعلى النزعات والعواطف وعلى الظالم وكذلك الرحمة على لمستضعف والمظلوم، وكان ابن باديس يرى أن كل من يتولى مسؤولية من مسؤوليات الحكم في هذه الدولة أن تكون أول واجباته " العلم بتاريخ وطنه والقيام بواجباته من نظرة علمية واقتصادية وعمرانية، والمحافظة على شرف اسمه وسمعة بنيه، فلا شرف لمن لا يحافظ على شرف وطنه ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه " (شريط، ص: 118)، وقد أرسى بدوره ابن باديس أسس أصول الحكم ويظهر منها 13 أصلا، ولم يسمها مبدأ أو أساسا، ولعل هذه الأصول نظرة استشرافية مستقبلية كفيلة بالدراسة في الجامعات العربية والاسلامية للنهل منها في سبيل بناء دولة قوية الأركان لا تعترف بالجمود والتخاذل، دولة تعطي لعبقريات أبنائها دورا مثاليا في سبيل زرع روح الثقة فيهم خدمة للتنمية المستديمة والتطور بشتى صوره وأشكاله، ولعل من أبرز هذه الأصول ما يلي: (شريط، ص: 119)

1-     لا حق لأحد في ولاية أمر من أمور الدولة إلا بتولية الأمة.

2-     أن لا يكون أحد بمجرد ولايته أمرا من أمور الأمة خيرا من الأمة.

3-     ضمان حق الأمة في مراقبة أولي الأمر لأنها مصدر سلطتهم وصاحبة النظر في ولايتهم وعزلهم.

4-     حق الأمة في مناقشة رجال الدولة ومحاسبتهم على أعمالهم وحملهم على ما تراه هي لا ما يرونهم هم.

5-     من واجبات الدولة أن تطلع الأمة على خطتها في الحكم وسياستها التي ستسير عليها حتى إذا صادقت الأمة على تلك السياسة لم يعد من حق الدولة أن تحيد عنها.

6-     أن لا تحكم الدولة إلا بالقانون الذي رضيته الأمة لنفسها.

7-     الناس أمام القانون سواسية يطبق على القوي دون رهنه لقوته، وعلى الضعيف دون رقة لضعفه.

8-     حفظ التوازن بين طبقات الأمة عند صون الحقوق، فؤخذ الحق من القوي دون أن يقصد كسره ويعطي للضعيف حقه دون أن يقصد تذليله.

9-     تعويد الحاكم والمحكوم معا على الشعور بأنهما مشتركان في الحكم وأن كل واحد منهما له دور يمثله في مسرح الحكم.

يلاحظ أن هذه الأصول  التسعة المذكورة من أصل ثلاثة عشر أصلا لها طابع حداثي واستشرافي مستقبلي لأن صميمها اسلامي وهي كما فهمها الدكتور جدعان مأخوذة بدقة من طبة أبي بكر عند توليه الخلافة، كما أنها تتفوق على ما جاء في مؤلف جون جاك روسو" العقد الاجتماعي".

قياس قوة الدولة الجزائرية لأجل استشراف فعال في خدمة التنمية

 هذا الموضوع متنامي الأهمية في العلوم السياسية بالدرجة الأولى وفي الجيوسياسية بشكل خاص، نظرا لأهمية هذا الموضوع الذي أصبح يثار كثيرا خاصة بعد تفكك نظام القطبية الثنائية (الاتحاد السوفياتي سابقا، الولايات المتحدة) خلال حقبة التسعينيات وانتقال العالم إلى حالة السيولة السياسية المبهمة، ومن هنا تبرز أهمية قولبة المفاهيم الجديدة للسياسة والاقتصاد وكيفية ممارستها، ودراسة قوة الدولة وعناصرها المتفاعلة كفيلة باعطاء مقدمات وماستقراء نتائج نابعة من العلاقات الدولية بشتى صورها وأشكالها وعلى هذا الأساس اطلعنا على البحث الرائد الذي أنجزه كل من الأستاذ صبري مصطفى البياتي (جامعة بغداد) والأستاذة مها ذياب حميد (جامعة بغداد)، حيث استخدم طريقة الاستبيان لدراسة توزيع عناصر القوة في الوطن العربي ومن بين دوله الجزائر التي صنفت بأنها بلد متوسط القوة إذا ما قورن بالمملكة العربية السعودية التي وصفت بأنها قوية جدا بينما دول كالصومال وموريطانيا والسودان فقدكانت ضعيفة جدا، وقد بنيا إذن بحثهما من واقع الخلفيات الفكرية للدراسات السابقة التي عالجت قياس قوة الدولة، وقد ذكرا في هذا الصدد اشكالية العناصر التي تتدخل في صناعة هذه القوة والتركيب الذي تتشكل به عناصر القوة هذه حيث أصبحت ذات ضرورة استثنائية تفرض نتائجها كمقدمات أولية لأية دراسة معاصرة في المجالات الجيوسياسية أو في العلاقات الدولية، ويذكر الباحثان (أنظر: مجلة المستقبل العربي، عدد 277، مارس 2002، ص: 35) أن RAY S.CLINE قد نجح في الجمع بين العناصر المادية والعناصر المعنوية في حساب قوة الدولة، ويبرزان نموذجه الحسابي كما يلي: PP=( (C+E+M)*(S*W) )  حيث أن: PP تمثل قوة الدولة، C الكتلة الحيوية، E القدرة الاقتصادية، M القدرة العسكرية، S الهدف الاستراتيجي، W الإرادة القومية أو الوطنية، لكن ظهرت صعوبة التطبيق الحسابي من واقع المتغيرين (W .S)، وكذلك ضبابية في حساب المتغيرات (M.E.C)، وكانت هناك محاولة من طرف JAMES COLEMAN لقياس قوة الدولة من واقع معادلات رياضية إلا أن ذلك لم يتم ، وقد وضعت نتائج تصوراتهما في المعادلة التالية: قوة الدولة = قيمة الحدثX مدى تحكم الحدث في مصالح الفاعل، لكن متغيري المعادلة أي قوة الحدث والتحكم فيه لا يمكن قياسهما رقميا، ثم كانت محاولة الباحث جمال زهران (1991) لقياس قوة الدولة والتي جسدها في المعادلة التالية: قوة الدولة = (( و ق + و ك + و ع + و س) X (و أ + و هـ + و د )) حيث أن: و ق تمثل وزن القدرة الاقتصادية، و أ وزن الإرادة القومية، و ك وزن القدرة الحيوية، و هـ وزن الأهداف الاستراتيجية، و ع وزن القوة العسكرية، و د وزن القدرة الدبلماسية، و س وزن القدرة السياسية، لكن تبقى نفس الاعتراضات تواجه هذا النموذج الذي يعاني بدوره من عدم امكانية الحساب الرياضي، ورغم ذلك فالدراسة التي قام بها الباحثان استخدمت الأسلوب الكمي للوصول إلى نموذج رياضي قادر على قياس قوة الدولة وبالشكل الذي يوفر احصاءات مطلقة قابلة للتمثيل والمقارنة وتسبق بتصور نظري للمتغيرات الجديدة المشكلة لقوة الدولة، كما استخدم الباحثان طريقة delphi technique باعتبارها منهجا حدسيا يستهدف تنظيم وصقل وزيادة الاجماع حول احداث موضوع في المستقبل بين مجموعة من الخبراء ذوي الاتصال بموضوع التنبؤ، وحتى تكون دراستهما وافية كما أشرنا أعلاه فقد لجأ إلى الاستبيان واختيار استمارة لهذا الغرض، بحيث تتضمن معلومات تخص قوة الدولة وتتمثل في سؤال محوري حول الدرجة التي تمنح للعناصر التالية في تشكيل قوة الدولة:

1-     الأرض: مساحة الدولة، شكلها، طول الحدود.

2-     كتلة السكان: حجم السكان، المستوى الصحي، التعليمي، الخدمي.

3-     القدرة الاقتصادية: الدخل الفردي، نسبة الناتج الصناعي، ميزان المدفوعات.

4-     قدرة الاتصال: نسبة المطبوعات، أجهزة الاتصال، النقل، الأنترنت.

5-     توفر الموارد: الموارد المائية، الموارد الأولية.

6-     القدرة العسكرية: حجم القوات المسلحة.

7-     القدرة النووية والحرب الكتلوية.

8-     التعبئة الاقتصادية: درجة الانكشاف الاقتصاد، نسبة الصادرات والواردات الأحادية.

9-     درجة الانكشاف العسكري: عدد القواعد الأجنبية في البلد...الخ.

10- الخلل البنيوي للسكان: عدد القوميات التي تزيد على نسبة 15% من مجموع السكان.

فبناءا على تفريغ هذه الاستمارات كانت النتائج الخاصة بالجزائر كما يلي:

1-          مؤشرات كتلة أرض الدولة: حيث احتلت الجزائر المرتبة الثانية بعد السودان، وقد كانت المؤشرات ذات قيمة حقيقية وقيمة معيارية احصائية، حيث أن الجزائر تبلغ مساحتها: 2381700 كلم2 تقريبا وبقيمة معيارية مقدارها 1.93 بينما السودان 2.08 وهي قيمة موجبة من الناحية الاحصائية ذات أهمية كبيرة، بينما بلغت نسبة الأرض الصالحة للزراعة 3.1 % من المساحة الكلية.

2-          مؤشرات القدرة البشرية: حيث قدر عدد السكان سنة 2000 بواقع 38.170000 نسمة بالتقريب وكان دليل العمر المتوقع يبلغ 0.74 سنة 1998، بينما دليل التعليم بواقع 0.67 واحتلت بذلك الجزائر الرتبة الثانية بعد مصر.

3-          مؤشرات القدرة الاقتصادية: كان دليل حصة الفرد من الناتج المحلي لسنة 1998 يبلغ 65%، بينما بلغت الصناعة كنسبة مئوية من الناتج المحلي 47.3% أما الاستثمار المحلي فقد بلغ 27.5% لسنة 1998، وبهذا فقد احتلت الجزائر الرتبة الثالثة بعد كل من الكويت والامارات العربية.

4-          مؤشرات القدرة على الاتصال: تمت الدراسة على عدد الحواسيب لكل 100 شخص فتبين أن القيمة الحقيقية تبلغ 4 بقيمة معيارية -0.65، أما عدد خطوط الهاتف لكل 1000 شخص فقد بلغت بالقيمة الحقيقية 53، بينما أجهزة التلفزة لكل 1000 شخص فقد بلغت بالقيمة الحقيقية 68 وبقيمة معيارية -0.82، وبهذا احتلت الجزائر الرتبة 15 واحتلت السودان الرتبة 19 كما احتلت قطر الرتبة الأولى، هذا يعني أن اشكالية  الاتصال لا تزال بعيدة عن المقاييس المتعارف عليها، ومن بين قنوات الحكم الراشد الاعلام والاتصال كرافد لتدفق المعلومات والحق في الاعلام الذي تنادي به الهيئات السياسية وكذلك الدستور الجزائري، ولا يمكن أن ننظر إلى قطر ذات المساحة الصغيرة وتعداد السكان الضئيل بأنها أفضل من الجزائر، فالجزائر حسب الدراسات الاستشرافية تقع في نقطة محورية كونها أكبر من قطر وأقل من قارة، والمعلومات السابقة تخص حقبة 1998 الموافقة لمشاكل العنف وبرنامج التعديل الهيكلي وما رافقه من تقشف و تجميد لبعض الأموال.

5-          مؤشرات وفرة الموارد الطبيعية: تتمثل هذه المؤشرات في نصيب الفرد الواحد من الموارد المائية بـ 1000 م3 سنويا حيث قدرت القيمة الحقيقية بـ 0.737، أما الاحتياطي المؤكد من النفط الخام بمليار برميل فقد بلغت القيمة الحقيقية 902 بقيمة معيارية -0.35، أما الاحتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي بتريليون م3 لسنة 1997 فقد بلغ 3.70، وعليه فقد احتلت الجزائر المرتبة السادسة، في حين أن العراق احتل المرتبة الاولى، والأردن المرتبة 17، وآخر ترتيب كان لمملكة البحرين التي جاءت في الرتبة 19، لكن للأسف لا زال الطابع الريعي المبني على مداخيل البترول والغاز هو السمة المميزة للاقتصاد الجزائري، ولم تتحدد إلى الآن سياسة لدعم الصادرات والانتاج خارج قطاع المحروقات.

6-          مؤشرات القدرة العسكرية: تتمثل في نسبة الانفاق العسكري من الناتج الاجمالي والتي بلغت بالقيمة الحقيقية 0.04 مقابل قيمة معيارية قدرها -0.44، أما مجموع عدد أفراد القوات المسلحة بالآلاف سنة 1998 فقد بلغ 122 بقيمة معيارية -0.017، بينما الانفاق على الدفاع بملايين الدولارات فقد بلغ 1234، وهكذا فقد احتلت الجزائر المرتبة السادسة بينما السعودية المرتبة الأولى والعراق المرتبة الثانية.

7-          مجموع عناصر القوة ومعاملاتها ومحصلاتها النهائية: احتلت الجزائر الرتبة السادسة بينما احتلت السعودية الرتبة الأولى، وآخر رتبة كان لجيبوتي التي احتلت الرتبة 19، وهذه النسبة حسب رأينا وطالما أنها خصت مراحل 1996، 1997، 1998، وهي السنوات التي كانت تعرف بسنوات الجمر في الجزائر واهتزاز هيبة الدولة وكذا آثار تطبيق برنامج التعديل الهيكلي الذي تم بتضحيات كبيرة سواء في مجال الصناعة والفلاحة أو في مجال البطالة وتسريح العمال وحل المؤسسات بطريقة ارتجالية لم تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع الجزائري والتقاليد الصناعية المكتسبة.

8-          مؤشرات التبعية الاقتصادية: تكمن هذه المؤشرات في درجة الانكشاف الاقتصادي وهي محصلة نسبة الصادرات والواردات إلى الناتج الاجمالي حيث كانت القيمة الحقيقية 0.46، أما صافي تدفقات الاستثمار الاجنبي المباشر بملايين الدولارات لسنة 1998 فقد بلغت 500، وهي مبلغ جد هزيل بسبب تردد المستثمرين الأجانب نظرا للظروف الأمنية من جهة والاجراءات البيروقراطية وصلابة التشريعات المتعلقة بالخصخصة وحركة رؤوس الأموال من جهة أخرى، وقد بلغ الدين الخارجي كنسبة مئوية من الناتج الوطني خلال سنة 1998 بالقيمة الحقيقية 0.67، مما جعل الجزائر تحتل الرتبة 12 في التبعية بينما احتلت الكويت الرتبة 19 واحتل العراق الرتبة الأولى بسبب الحصار الاقتصادي المضروب على هذا البلد منذ 1991، وهذا يعني أن الرتبة التي تحتلها الجزائر رتبة جيدة.

9-          مؤشرات التبعية العسكرية: من حيث وجود قواعد أجنبية ثابتة في أراضي الدولة فقد أظهرت الدراسة أن القيمة الحقيقية معدومة، بينما استقام قوات أجنبية خلال ربع القرن الماضي فكانت القيمة معدومة كذلك، وكذلك الأمر بالنسبة لمؤشر الاشتراك مع قوات أجنبية في معارك ومناورات استراتيجية خلال الربع قرن الماضي، واحتلت الجزائر بذلك رتبة جيدة تعكس سيادتها رغم مشاكلها الداخلية ومع جيرانها ومع التكتلات الدولية، لكن بعد سنة 2000 تغيرت الموازين وتكيفت معها الجزائر محافظة دوما على سيادتها وانفتاحها خاصة على الاتحاد الأوروبي وغير ذلك.

10-     مؤشرات الخلل البنيوي للسكان: تظهر هذه المؤشرات عبر دليل الفقر البشري والذي عكس قيمة حقيقية قدرها 24.8 % سنة 1998، أما اللاجؤون وبالآلاف فقد بلغوا 6.7 سنة 1998 بينما مؤشر البلدان التي شهدت مشكلات داخلية سياسية واجتماعية خلال ربع القرن الماضي فقد كانت القيمة الحقيقية تمثل 1 بمعنى أن الجزائر عرفت هذه المشكلات وكان ترتيب البلاد تبعا لما سبق في الرتبة السادسة بينما احتل العراق الرتبة الأولى وليبيا الرتبة 16، وعليه فان مجموع عناصر الضعف ومعاملاتها ومحصلة القوة النهائية جعلت من الجزائر تحتل الرتبة الرابعة وهي رتبة جيدة بعد الكويت والامارات والسعودية.

خلاصة عامة

بعد معالجتنا لإشكالية الحكم الراشد ومدى الاستفادة منه في دفع حركية التنمية المستديمة في بلد كالجزائر الذي يحوز مقومات متعددة كفيلة بإنطلاقة جادة لزيادة النمو وحل الكثير من المعوقات ذات الأبعاد المختلفة والتي أثرت على مصداقية الدولة من جانب سير الجماعات المحلية التي تعتبر قنوات لممارسة الديمقراطية والشفافية لتحقيق رفاهية المواطنين وزيادة استغلال الموارد المتاحة استغلالا امثليا، عقلانيا ورشيدا، ومصطلح الحكم الراشد كما ذكرنا  يتعلق بالعديد من انواع السياسات العمومية والخاصة وله ميزة على مختلف المستويات الإقليمية من جانب التدخل، فمن الحاكمية المحلية إلى الحاكمية العالمية، إلى الحاكمية الحضرية، إلى تلك الحاكمية التي تدفع بالسياسات النقدية والتشغيل واستغلال المعلومات عبر شبكات الانترنات خدمة للمؤسسات على كل المستويات، وهذا لا يعني بقاء الحاكمية من جانبها المحلي فقط بل التفتح على الحاكمية العالمية التي هي نتاج الآثار الحساسة للعولمة وعليه يتعين أن تتحقق فرضية التطبيقات التقليدية للحكومة الجيدة والنظيفة القائمة على التعاون الدولي بين الدول، ولابد من الاستفادة من مبادىء الحكم الراشد لحلول المشاكل الناتجة عن العولمة من خلال تعريف هيكل قيم عالمية وكونية والتي تستقي من الممارسات الجيدة إن على مستوى الأعمال أو الحكومات وكذلك المنظمات المكلفة بضبط العولمة، فالانفتاح المحبذ هو الذي يشكل للنخبة الحاكمة نظرة جديدة في سبيل تطوير نظم التسيير، وهذا ما جسده الباحث Marcel Prouser الذي يرى أن " الاكتشاف الحقيقي للسفر لا يعني ولا يتطلب إيجاد والتعرف على أراض وأماكن جديدة بقدر ما يسعى لتكوين نظرة جديدة"، كما لا ينبغي لبلد كالجزائر قبول النماذج المقولبة والمفخخة المملاة من أطراف متعددة لا تعرف الواقع الجزائري، وإنما العودة المبكرة لجذور وأسس الدولة الجزائرية عبر التاريخ، والتي وكما عالجنا أبرزها الأمير عبد القادر والشيخ عبد الحميد بن باديس في استنباط واستقراء الفعل والتصور لبناء الدولة، وقد أثبتا عن جدارة تفوقهما في تقديم مقاربة حول الحكم الراشد لا على المستوى المحلي فقط وإنما في إطار عالمي كفيل بخلق مجتمع دولي تسوده الحرية الحقيقة والشفافية الحقيقية والديمقراطية الحقيقية النابعة من الفطرة الحسنة للإنسان.

بناءا على ما سبق ذكره، يمكن تقديم الاستنتاجات والتوصيات التالية:

1-   يتعين على فقهاء اللغة العربية إيجاد المصطلح الدقيق للحكم الراشد مع إعطائه البعد التعريفي المنهجي الكفيل بإبراز الجوانب الحداثية لهذه اللغة، على أن يكون المصطلح موحدا في كل البلاد العربية والإسلامية.

2-    للرجوع إلى السلم الإجتماعي وتبعا لذلك السلم الإقتصادي والثقافي لابد من تبني أسس الحكم الراشد في إطارها العالمي وتطعيمها بالاسس المحلية النابعة من أصالة وتقاليد الشعب الجزائري، لأن العولمة وفي إطار التغريب، تظهر وكأنها وعبرها الحكم الراشد قد تم إملاؤهما عبر التحولات الجديدة الجيو استراتيجية، في حين أن للجزائر نظرة استشرافية تطبيقية في اطار مبادرة النيباد والتي باركتها الدول الإفريقية وقد تعدت هذه المبادرة إلى القبول الرضائي وليس الرفضي من طرف المنظمات الدولية، فحسب علمنا لا يوجد للبلدان الافريقية ما يعرف بالمعارضة السياسية ذات المصداقية، ولو أن للجزائر تجربة مقبولة في هذا المجال، لكن يبقى على البلدان الافريقية والعربية إيجاد ميثاق قانوني وكذلك الدفاع ومن الناحية الاقتصادية بترقية التجارة الدولية الفعالة وواضحة المعالم والقائمة على مقاربة متعددة الأطراف في مجال المفاوضات مع مطالبة المنظمة العالمية للتجارة أن تأخذ بعين الاعتبار مختلف مستويات التنمية للدول الأعضاء، وإعطاء ديناميكية أكثر للإنسان العربي والافريقي ليكون عنصر القطب في التنمية المحلية وتبعا لذلك التنمية الوطنية.

3-    تفرض العولمة على كل دول العالم نتيجة الهيمنة والتبعية التي تعاني منها غالبية البلدان النامية ومن بينها الجزائر والتي رغم جراحها إلا أنها نهضت وبدأت خطوات طموحة في الاندماج الكلي خشية البقاء على الهامش، وهذا ما يعني أن الحكم الراشد ضروري ولكنه ذو بعد تدرجي حتى لا تثار الحساسيات خاصة على مستوى الجماعات المحلية وسيرها بذلك النمط المنطلق من الذاتية الضيقة التي خلقت صراعات عقيمة حالت دون تنفيذ مشاريع التنمية المحلية الضرورية لحياة السكان، فالأمر إذن لا يتعلق بتحضير الشروط القانونية والهيكلية ولكن أكثر فأكثر إصلاح ذهنيات المسيرين والقادة.

4-    رغم أن الجزائر بلد بترولي، وأن أسعار النفط في حالة ارتفاع رغم تدهور صرف الدولار وصعود صرف الأورو الذي يبقى دوما عملة غنية ولكن ليس عملة قوية، ففي سنة 2004 تم تقدير برميل النفط عند اعداد قانون المالية على أساس 19 دولار في حين أن متوسط السعر في هذه السنة بلغ 32 دولار، وفي سنة 2005، وصل متوسط سعر البرميل حدود 50 دولار. تلاحظ نظرة أولية للحكم الراشد من واقع هذه الإجراءات كون سعر البرميل يخضع لهزات وتغيرات موسمية ناجمة عن مناطق التوتر في العالم والتي للولايات المتحدة ضلع فيها، إضافة إلى توقيف دوري لمصانع تصفية البترول ومشتقاته في نفس البلد نظرا لاحتجاجات أنصار البيئة. وهذه الأمور ذات المقاربة المالية تؤكد أن الاقتصاد الجزائري لا زال رهينة المقاربة المالية، وأن مجموع التوازنات المبنية على القاعدة السابقة وكذلك الفرق في أسعار النفط تذهب إلى تغذية صندوق استقرار المداخيل، ونعتقد بدورنا أن الصندوق النقدي الدولي والبنك الدولي يلحان وفقط على مسألة الاستقلالية والمصداقية المالية للجزائر، دون الاهتمام بمصير المواطنين وزيادة الإفقار. ولن يكون للبلاد حكم راشد إذا لم يتم إبعاد خلق هذه التوازنات المالية عن الاشراف المباشر لوزارة الداخلية والجماعات المحلية والتي حلت محل المخطط المالي الاستراتيجي وأصبحت هي الموزع الأساسي لهذه الموارد، بمعنى أن هذه الوزارة أصبحت صورة أخرى غير واضحة المعالم لوزارة المالية، وأصبحت الداخلية توزع هذه الموارد وبصفة أحادية عبر النفقات العمومية دون الأخذ بعين الاعتبار لمخزونات الموارد المالية المجمعة خارج مكان تراكمها مثل احتياطات الصرف وصندوق ضبط الموارد.

5-    لابد من زيادة الشفافية حول التغيرات السياسية في السلطة والحكم مع الارتباط القوي بديمقراطية التعددية وكذلك حرية التعبير وحرية ممارسة العمل السياسي من اجل انفتاح اكثر يقودنا الى الرجوع الى مرحلة السلم المدني، علما أن حرية التعبير والتظاهر والرد الرفضي لها ضوابط قانونية ترتبط كذلك بصحافة مهنية مسؤولة ومهتمة أكثر فأكثر بمصالح الجزائر، كما يمكن أن نذكر مسألة ضرورة مراجعة الخارطة السياسية الوطنية رغم الصعوبات الملاحظة.

6-    ضرورة ملء فراغ الدولة الغائبة لإقامة دولة القانون التي تخدم الشفافية والمسؤولية في مختلف مفاهيم الحياة العمومية والخاصة مع تسيير فعال للموارد العمومية عن طريق التسيير بالمشاركة وفق نظام لا مركزي لإتخاذ القرارات ودوما في نطاق الشفافية بعيدا عن التسيير القائم على الزبائنية والعشائرية حتى يخلق إطار اقتصادي كلي واضح ومحفز وملائم لحرية المؤسسة من جهة واقتصاد السوق من جهة أخرى، وهذه الأمور لم تتأتى إلا بالمحاربة المستمرة للرشوة لأن الحكم الراشد يسمح بمعالجة المشاكل السياسية العقائدية بالنظر إلى التنمية الاقتصادية وفق  مصطلحات تحد وتكبح التجاوزات والمجابهات الخشنة الملاحظة يوميا على مستوى الجماعات المحلية في الجزائر.

7-    على المستوى المحلي، يجب تنظيم أنشطة من شأنها تحفيز الجماعات المحلية، حيث أن الولاة يقومون بتوعية حول مشاكل السكان والتنمية على مستوى الولايات، مع وضع النقاط على الحروف بخصوص الدور التنسيقي لبرامج ترقية السكان للولاية ، وكذلك إشراك المنتخبين المحليين وبالتحديد المجالس الشعبية الولائية للوضع موضع التنفيذ للسياسة الوطنية للسكان على مستوى الولاية، ويتم ذلك عن طريق تحفيز دورات تكوينية في مجال برمجة توافقية للمفاهيم وكذلك مقاربات قطاعية متعددة من مرتكزات تسيير قواعد المعطيات وكذا الأبحاث والدراسات النوعية لأجل ضمان فاعلية في التسيير المحلي، وينبغي كذلك تدعيم وتقوية السلطات المحلية خاصة تلك المكلفة بمتابعة وتقدير برامج ترقية السكان بإستخدام موظفين متخصصين في مجال الديموغرافيا والإحصاء، ولا يجب إهمال تجميع وإقامة نظام للمعلومات المحلية مع تشجيع تبادل المعطيات على المستوى المحلي مما يسمح بمتابعة وتعريف مؤشرات المتابعة والتقدير.

8-    إعطاء أهمية للحالة المدنية كعنصر أساسي وكوسيلة للمتابعة والتقدير في السياسة الوطنية للسكان والتنمية المحلية، ولابد من خلق لجان متخصصة للإشراف والمتابعة وكذلك مضاعفة اللقاءات الدورية بين المنتخبين المحليين وعلى المستوى الوطني.

قائمة مراجع البحث

1- سهيل ادريس، جبور عبد النور: المنهل (قاموس فرنسي- عربي)، دار العلم للملايين، بيروت، 1983.

2-  وزارة الثقافة والسياحة: مجلة الثقافة، السنة 16، العدد 91، يناير- فبراير، 1960 .

3- بيرتران شفارتز: دراسات في الفكر التربوي المعاصر، ترجمة د. حنفي بن عيسى، مجلة الثقافة، مصدر سابق.

4- د. رابح تركي: جهود الجزائر في تعريب التعليم العام والتقني والجامعي (1962- 1984)، مجلة الثقافة، مصدر سابق.

5- محمد طويلي: الدولة الجزائرية الحديثة، الملتقى الدولي حول اصداء الثورة الجزائرية.

6- د. عبد المجيد قدي: المدخل الى السياسات الاقتصادية، ديوان المطبوعات، الجزائر، 2003.

7- د. صبري البياتي، د. مها ذياب حميد: قياس قوة الدولة، مجلة المستقبل العربي، عدد 277، بيروت، 2002.

8- د.عبد الله شريط: مع الفكر السياسي الحديث والمجهود الأيديولوجي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986.

9- د. احمد بلوافي: ازمة الحكم في الجزائر، مجلة السنة، العدد 107، ربيع الثاني 1422هـ.

10- د. عبد الله صادق دحلان: المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، مجلة عالم العمل، مارس 2004.

11- مصطفى كامل السيد: الفساد والتنمية: الشروط السياسية للتنمية، مركز دراسات و بحوث الدول النامية، القاهرة 1999.

12- - كيمرلي آن إليون ترجمة محمد جمال إمام: الفساد والاقتصاد العالمي، مركز الأهرام للترجمة والنشر القاهرة 2000.

13- عبد الله بن حاسن الجابري: الفساد الاقتصادي: أنواعه أسبابه آثاره وعلاجه، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي جامعة الأزهر القاهرة، العدد 21، 2003.    

14- زايري بلقاسم: الحكم الاقتصادي الرشيد و الكفاءة الاقتصادية، المؤتمر العلمي الدولي، 08/09 مارس 2005 جامعة ورقلة.

15- صادق الحسيني: التحليل المالي والمحاسبي، دار مجدلاوي، عمان، 1998.

16- عبد القادر محمود رضوان: مبادىء الحسابات الإقتصادية القومية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1990.

17- فاروق عبد العال محمد: المحاسبة القومية، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، دون تاريخ.

18- احمد طالب الابراهيمي: الأزمة والحل (1988- 1990م)، طبعة 2، دار الأمة، الجزائر، 1999.

19- محسن أحمد الخضيري: الإدارة في دول النمور الآسيوية، اتراك للنشر، القاهرة، 1999.

20- أنظر التقرير الإقتصادي العربي الموحد، عدة سنوات.

Modifier l'article…

هل تريد التعليق على التدوينة ؟